في شوارع باريس و مدن فرنسية أخرى. و لم تكن هذه المرة مثل سابقاتها إذ أدخل القرار الرئاسي اللجوء لقوات الجيش لحراسة المنشآت في باريس و غيرها من المدن خلال المظاهرات جدلا حادا في صفوف الأحزاب السياسية بعد أن صرح الحاكم العسكري بباريس أن العسكريين «يمكنهم إطلاق النار إذا ما كانت حياتهم أو حياة الأشخاص الذين تحت حمايتهم معرضة للخطر».
و بالرغم من تدخل قصر الإيليزي لإطفاء الحريق فإن تصريحات الجنرال برونو لوراي ساهمت في ازدياد حدة التشنج الذي أظهرها بعض قادة المتظاهرين و زعيم اليسار الراديكالي جون لوك ميلونشون و تركت جانبا موضوع الحرق و التكسير للمنشآت خارج نطاق الجدل بل تمحور خطاب المعارضة حول الدفاع عن حق التظاهر و رفض تدخل الجيش.
إجراءات أمنية غير مسبوقة
من الواضح أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة و رئاسة الجمهورية للتصدي لأعمال العنف و التخريب في شوارع فرنسا ، مع الحفاظ على حق التظاهر الدستوري، دخلت منعرجا جديدا بعد إقرار مبدأ منع الجولان في بعض الشوارع الهامة مثل جادة الشنز إيليزي بباريس و ساحات و شوارع في 12 مدينة أخرى و استخدام الفرقة العسكرية لمقاومة الإرهاب في حماية المنشآت. وتم اللجوء أيضا لفرق تدخل سريع متخصصة في إدارة المظاهرات وقادرة على تفريقها والقيام بإيقافات سريعة في صفوف المخربين. لأول مرة تلجأ وزارة الداخلية لهذا الصنف من أعوان الأمن.
الإجراء القاضي باستخدام فيلق من الجيش كان محل جدل عميق، خاصة في صفوف تشكيلات اليسار و اليسار الراديكالي بقيادة جون لوك ملونشون الذي أطلق “صيحة فزع” سياسية ضد الإجراء الرئاسي ووجه طلبا علنيا للجيش حتى «لا يستعمل السلاح ضد المتظاهرين» ردا على تعقيب الجنرال لوراي. لكن ملونشون لم يكتف باللجوء إلى التهدئة بل طالب مناصريه بالخروج للتظاهر مؤازرة لجماعات «السترات الصفراء» بدون التنديد بمجموعات المخربين من اليسار الراديكالي واليمين المتطرف. خطاب تحول مع أسابيع الحراك الشعبي إلى نوع من الراديكالية القريبة من التوجه الثوري بدون الإفصاح عنه.
نجاح نسبي في تطويق المظاهرات
الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة لم تمنع مرة أخرى من قيام آلاف من الأشخاص بمظاهرات في مختلف المدن الفرنسية معبرين عن تمسكهم بمطالبهم الاجتماعية و السياسية بالرغم من الحوار الوطني الكبير الذي انتهى بتنظيم أكثر من 3000 حلقة حوار في مختلف الجهات الفرنسية من أجل التوصل إلى “توافق” شامل و عريض حول أمهات القرارات المقبلة لحل الأزمة الاجتماعية المتواصلة. لكن نفس الإجراءات قلصت من حدة التوتر و ساهمت في حفظ الأمن والسماح بالتظاهر في آن واحد.
ولتمكين الأغلبية المسالمة من ممارسة حقها في التعبير السلمي عن موقفها قامت أجهزة الأمن المنظمة في أسلوب جديد سهر عليه المسؤول الأول على الشرطة في باريس ديديه لالمون ،الذي تم تعيينه مؤخرا، بإيقاف أكثر من 50 شخص و التثبت من هوية أكثر من 5000 شخص في باريس. وهو ما ساهم في استتباب الأمن مع إبعاد شبح اندلاع أزمة سياسية حول اللجوء إلى الجيش. ولوحظ غياب مجموعات «البلاك بلوك» في مختلف مواقع التظاهر و نجاح الخطة الحكومية في منع التظاهر في جادة الشانز إيليزي و في الأماكن الممنوعة من التظاهر. لكن في نهاية المظاهرات جدت، كالعادة منذ اسابيع، بعض المناوشات في المدن الداخلية أين يكون تواجد رجال الأمن أقل كثافة.
هذه الإجراءات الأمنية لم تمنع التظاهر لكنها فتحت الباب مجددا للتفكير على المستوى الحكومي والوطني في مطالب «السترات الصفراء» و في طليعتها المطلب الأساسي المتعلق بإرساء «الاستفتاء الشعبي». وساهم تزايد عدد المتظاهرين مقارنة بالأسبوع الماضي في إرجاع أجندة “السترات الصفراء” إلى طاولة التخطيط السياسي على المستوى الحكومي و في صلب تحركات الأحزاب المعارضة المشاركة في التحرك و في مقدمتها حزب فرنسا الأبية و حزب التجمع الوطني. لكن مظاهرات يوم السبت أظهرت مشاركة بعض المجموعات المتطرفة الأوروبية التابعة لحركة «البلاك بلوك» في مدينة مونبيلي وهي قادمة من إيطاليا و ألمانيا. تحرك ملحوظ سوف يخلق جوا من التوتر و يفرض إجراءات إضافية مع قرب الانتخابات الأوروبية المبرمجة لشهر ماي القادم.