في الشمال سواء شرقا أو غربا للأسباب المعروفة، على غرار تعدد الميليشيات المتصارعة و غياب سلطة مركزية قوية وفوضى انتشار السلاح و تفشي الإرهاب و ولاء غالبية مكونات الطبقة السياسية للخارج و خدمتهم لأجندات لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بمصالح الشعب الليبي، و غيرها من الأسباب التي تسبب «الفوضى الخلاقة» التي أرادها أصحاب هذا المشروع الهدام وراء المحيط لكامل المنطقة و إن بدرجات متفاوتة. فقد بات هذا الجنوب بؤرة لكل شيء سيء على غرار التهريب و تجارة المخدرات و السلاح و الإرهاب، و أيضا الصراعات العرقية بين الطوارق و التبو على أساس اللون و على أساس درجة القرابة مع النيجر و تشاد، و بين التبو و قبائل ليبية أخرى على غرار أولاد سليمان وزوية و غيرها ناهيك عن تجارة البشر و الصراع على النفط.
ويبدو غالبية الطوارق الليبيين أقرب إلى «أمراء حرب» طرابلس سواء تعلق الأمر بـ»زعماء» الحركات الإخوانية و التكفيرية أو بجماعة إيطاليا أي السراج و محيطه والمؤسسات المنبثقة عنه و عن اتفاق الصخيرات، و ذلك بالرغم أن هذه القبائل كانت و إلى وقت غير بعيد نصيرا للعقيد الراحل معمر القذافي. في حين يبدو أن التبو أقرب إلى الشرق، أي لحفتر و البرلمان الليبي الشرعي المعادي للجماعات الموظفة سياسيا لدين الله و التي شكلت في وقت ما عملية فجر ليبيا و من يواليها.
و لعل الأخطر في الجنوب الليبي، و الذي يجعل هذا الجنوب حالة فريدة هو تمركز ميليشيات أجنبية تشادية و نيجرية و مالية و سودانية و اتخاذها من هذا الجنوب مستقرا قد لا يستسيغ القائمون عليها فكرة أنه «إلى حين» و يشير سلوكهم أن لديهم رغبة في تأبيد البقاء. و تنتمي غالبية هذه الفصائل إلى المعارضات في بلدانها و مصالحها متعارضة و متضاربة، فمعارضو الرئيس التشادي إدريس ديبي متواجدون جنبا إلى جنب في الجنوب الليبي مع ميليشيات دارفورية سودانية معارضة لنظام الخرطوم و موالية لنظام نجامينا الموالي بدوره إلى حد التبعية إلى باريس.
و بالتالي فإن خطر تصفية هذه الميليشيات المعارضة لحساباتها على أرض الجنوب الليبي تبقى قائمة إذا ما أريد لها ذلك من خارج الحدود الليبية خاصة وأن بعضها شارك في معارك ليبية ليبية و بات طرفا فاعلا في الأزمة الداخلية المستفحلة. و لعل ما يزيد الطين بلة هو تسريبات لقاء نتيانياهو إدريس ديبي في زيارة الأخير إلى الكيان الصهيوني حيث أكدت عديد الأطراف عن رغبة إسرائيلية في وضع موطئ قدم في ليبيا من خلال تشاد التي قال رئيسها صراحة من فلسطين المحتلة أن من كان يمنعه عن زيارة «إسرائيل» هو معمر القذافي.
لقد احتلت فرنسا إقليم فزان سنة 1943 و سمي هذا العام عند الليبيين بعام العبيد نظرا لوجود كتيبة من السينغال و أخرى من المجندين المغاربيين ضمن الجيش الفرنسي انخرطوا في القتال ضد أحفاد عمر المختار. و حكمت فرنسا الجنوب الليبي إلى حدود سنة 1957 بقبضة حديدية ارتكبت فيها أبشع الجرائم و بات القتل والتعذيب خبزا يوميا لدى مواطني الجنوب الليبي، و عبثت باريس أثناء ذلك بخرائط المنطقة مثلما شاءت و كانت تونس أشد المتضررين من التقسيم الإستعماري بعد أن قضموا منها أراض بالجملة شرقا و غربا.
لذلك تشعر فرنسا بأحقيتها التاريخية في الإنتفاع بثروات الجنوب الليبي و السيطرة على قراره يساعدها في ذلك حاكم تشاد، الذي أطلقت يداه على المنطقة بعد رحيل القذافي. و رغم هذه الرغبة الجامحة في الهيمنة لا تبدو باريس قادرة على ضبط الأمور لصالحها في الجنوب الليبي و لعل ما يؤكد ذلك استقرار ميليشيات من الطوارق الماليين المعارضين لنظام باماكو حليف فرنسا على الأراضي الليبية الجنوبية، ناهيك عن معارضي إدريس ديبي من الميليشيات التشادية و معارضي الحكم في نيامي حيث رئيس نيجري موال لفرنسا، و هو ما يؤكد على أن الأوضاع في الجنوب تزدادا تعقيدا نظرا لغياب سلطة مركزية ليبية قوية قادرة على ضبط حدودها.