على ملازمة التفكير الإستعماري للقوى الكبرى رغم مضي عقود على ما سمي في التاريخ الحديث بـ«ظاهرة استقلال المستعمرات». فليس من باب الصدفة أن تفوض الولايات المتحدة و بريطانيا مصالحهما في ليبيا إلى الطرف الإيطالي، ففي المخيال الغربي ليبيا مستعمرة إيطالية وشأنها يعود بالنظر إلى روما و إن طال الزمن و مضت عقود على جلاء الجنود الإيطاليين عن التراب الليبي.
و يبدو أن فرنسا، المستعمر السابق للجنوب، و من خلال ما تقوم به عسكريا و استخباراتيا و سياسيا في الميدان الليبي، تشعر بدورها بأحقية في تقرير مصير الليبيين يحركها إرثها الإستعماري الذي لم يبارح بعد أذهان الفاعلين و صناع القرار في بلد نابليون بونابارت، وذلك رغم مضي كل هذه السنوات التي اعتقدنا فيها جميعا أننا شعوب تخلصت و إلى الأبد من ذلك الماضي الاليم و سنوات القهر العجاف. فباريس و طوال هذه العقود لم تكلف نفسها عناء الإعتراف بجرائمها الإستعمارية فما بالك بالإعتذار الذي يطالب به البعض في دولنا التي خضعت واستكانت لها في حقبة ما كانت فرنسا تصنف فيها ضمن كبرى الإمبراطوريات.
و لسائل أن يتساءل مثلا لماذا لم يفوض الشأن الليبي غربيا إلى ألمانيا أو هولندا أو بلجيكا أو غيرها من البلدان الأوروبية ماداموا أوصياء على بلداننا في كل الحالات؟ لماذا إيطاليا تحديدا بمنافسة فرنسية، تغض عنها القوى الأنقلوسكسونية الطرف أحيانا، و تصارعها في الكواليس حين تتعارض المصالح في أحيان أخرى؟ لماذا تتدخل بلجيكا إلى اليوم في شؤون الكونغو و فرنسا هي التي ترسل جيوشها الجرارة إلى شمال مالي للقضاء على المتمردين الطوارق أصحاب القضية العادلة من جهة، وعلى العناصر التكفيرية التي تستغل القضية الطارقية كذبا و زورا و بهتانا، كلما هدد هؤلاء الحكم في باماكو؟ أليس لأن التقسيم الإستعماري القديم مازال طاغيا على تفكير الغربيين و الذي أنشأ محميات لكل واحدة منها سيد لا يمكن لغيره ولوجها و ذلك بالإتفاق فيما بين الأسياد دون الإلتفات لساكنة المحمية؟
و يرى جل العارفين بالشأن الليبي أن هذا التنافس الإيطالي الفرنسي في ليبيا سيعطل الحل في بلد عمر المختار لسنوات قادمة باعتباره و باختصار تنافس استعماري، و ما مؤتمر باليرمو الذي نظمه الإيطاليون وقاطعه حفتر برغبة فرنسية و ربما روسية إلا محاولة من روما لعرقلة ما تم التوصل إليه في لقاء باريس. و يتذكر القاصي و الداني كيف سابق رجل إيطاليا فايز السراج الرياح إلى روما و طمأنها مباشرة بعد لقاء باريس الذي أقام الدنيا و لم يقعدها في البرلمان الإيطالي و في وسائل الإعلام الإيطالية و لدى معارضي حكومة روما خشية من أن تضع باريس يدها على الكعكة الليبية التي تسيل لعاب الإيطاليين و غيرهم.
و يؤثر هذا التنافس سلبا على البعثة الأممية إلى ليبيا و يجعلها مجرد هيئة توفيقية للمستعمرين القدامى الذين باتوا أصحاب الشأن و لا حل في ليبيا إلا باتفاقهم ورضاهم جميعا. فالمبعوث الأممي اللبناني غسان سلامة و إن كان محسوبا على الفرنسيين، وهم من دفع باتجاه تعيينه، إلا أنه غير قادر على تجاوز الإيطاليين و ذلك بالنظر إلى من يقف وراءهم و يدعمهم أي الأمريكان والبريطانيين، إضافة إلى أن إيطاليا بدورها قوة أطلسية لا يمكن الإستهانة بها.
أما بالنسبة لدول جوار ليبيا فإن الأحداث تجاوزتها جميعا و في أحسن الحالات ينسق معها أصحاب الشأن للمساعدة على حماية حدود ليبيا أو لتوفير المؤن لليبيين أو استغلال مطاراتها او بناها التحتية لتمرير شيء ما. و لذلك تدعى هذه الدول إلى مؤتمرات باريس و باليرمو و روما و غيرها لتلعب الدور الذي أريد لها سابقا في المتوسط، أي ذلك الشرطي الحامي لجنوب أوروبا من الإرهاب و الهجرة السرية و التهريب و في الحالة الليبية للمساعدة في أمور لوجستية يحتاجها أصحاب الأنصباء في الكعكة، و قد تنال هذه الدول بعض الفتات إن هي نفذت رغبات الأسياد.
لذلك يخطئ من يعتقد أن هناك قوى إقليمية أو دولا عربية قادرة على الفعل في الملف الليبي الذي تم تدويله بالكامل و خرج عن السيطرة و بات بيد القوى الكبرى والمستعمرين القدامى. و يبدو الليبيون أمام حلين لا ثالث لهما إما انتظار الفرج باتفاق القوى الكبرى و المستعمرين القدامى فيما بينهم، أو التمرد على هذه الدول و على الطبقة السياسية الليبية الحالية التي تدين بالولاء إلى هذه القوى الكبرى و لا تمتلك سلطة القرار لتقرير المصير.