في باريس الأحد 11 نوفمبر يجمع أكثر من 70 رئيس دولة وحكومة منهم من يمثل الدول المشاركة في الحرب الكبرى مثل الستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي وعدد من الزعماء الأفارقة من بينهم الرئيس الباجي قائد السبسي والعاهل المغربي محمد السادس. والتحق بباريس لهذا الغرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين و الأمريكي دونالد ترامب و تغيب الرئيس الصيني ورئيس الوزراء الياباني. وتشفع هذه التظاهرة بعديد اللقاءات الثنائية للبحث في تدعيم نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب حول مشاريع تنمية تشاركية. ويلقي الرئيس ماكرون يوم الأحد كلمة في الإحتفال أمام قوس النصر في باحة الشانز إيليزي من أجل «ربط فرنسا عام 2018 بفرنسا عام 1918» حول مشروع السلام الدولي. و قد ذكر الملاحظون بمقولة رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمونسون الذي أدار «وقف إطلاق النار» عام 1918 :«نحن ربحنا الحرب وخسرنا السلام»، وذلك من أجل العمل على إرساء نظام عالمي جديد من أجل السلام.
انطلقت الاحتفالات بجولة في «أماكن الذاكرة» شمال فرنسا قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون لإحياء ذاكرة من ضحى بنفسه للدفاع عن فرنسا. و زار ماكرون 7 مدن و قرى أين التقى بالمواطنين و شارك في الاحتفالات بنهاية الحرب و ألقى في كل مكان كلمة في الغرض. و شاركت مختلف المدن الفرنسية بالإحتفال في الذكرى عبر برامج محلية مختلفة. الاحتفال ب «الهدافين الأفارقة»، وهم عناصر الفيالق المقاتلة الذين تم تجنيدهم من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا و على رأسهم السنغاليون و الماليون، كان حدثا فارقا طالبت به الدول الإفريقية منذ سنين. ودشن ماكرون بهذه المناسبة نصبا تذكاريا في مدينة رانس التي استمات فيها الأفارقة لصد الجيوش الألمانية في بداية الحرب متكبدين فيها آلاف القتلى.
و ذكر المؤرخ الفرنسي جوليان فارجيتاس أن فرنسا قد جندت قسرا أكثر من 200 ألف مقاتل من مستعمراتها جنوب الصحراء و270 ألف مغاربي من بينهم 60 ألف تونسي للقتال ضد الجنود الألمان. و سجلت هذه الحرب مقتل قرابة 30 ألف جندي إفريقي و 16 ألف تونسي. لكن مشاركة الأفارقة عموما بقيت خارج اهتمام الأفارقة نفسهم بحكم مشاركة الجنود في جند الإستعمار واعتبرت فيالق الجنود الإفريقية ضربا من «التعاون» مع العدو. أما الدولة الفرنسية فتناست دورهم في الدفاع عنها بعد انتهاء الحرب. و أعادت الكرة في الحرب العالمية الثانية بتجنيد عشرات الآلاف من الشباب الإفريقي و استعملتهم كذلك في عمليات استعمارية لتصفية المقاومة في مدغشقر و المغرب وتونس وضد الجزائريين في أحداث قسنطينة في ماي 1945.
الإحتفال بالفارقة يأتي بعد مقولة ماكرون الشهيرة في الجزائر عندما اعتبر «الاستعمار جريمة ضد الإنسانية» قبل أن يلين من خطابه تحت ضغط الفرنسيين الرافضين للتطبيع. ثم قام بخطوات جريئة أخرى لإعادة الاعتبار للحركيين الجزائريين الذين رفضوا استقلال البلاد و التحقوا بفرنسا. و اعترف أخيرا بدور فرنسا في استخدام التعذيب في الجزائر مدة حرب التحرير. و كلها تصب في إعادة النظر في الذاكرة المشتركة التي لا تزال تعتبر خطا أحمر بالنسبة لليمين المتطرف و الفئات التي شاركت في حرب الجزائر مستخدما أساليب خارج القانون.
جدل اجتماعي
تعرض الرئيس ماكرون خلال زياراته لمختلف المدن في ساحة القتال خلال الحرب الكبرى إلى عدة انتقادات من قبل المواطنين تعلقت، لا بالذكرى نفسها، بل بالوضع الاجتماعي الفرنسي الحالي. و واجه ماكرون جدلا عميقا تعلق بالإجراءات الجبائية التي اتخذتها حكومته ضد المتقاعدين و ارتفاع سعر المحروقات. و دخل الرئيس ماكرون كعادته في نقاشات حادة مع المارة للدفاع عن موقفه دون الهروب من مواجهة الإنتقادات.
و توجت الزيارة المكوكية بجدل حول ما قاله ماكرون بخصوص بطولة الماريشال بيتان الذي اعتبره بطل الحرب الكبرى بالرغم من تعامله مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. و استغلت مختلف المنظمات الأهلية و الحزبية هذا الحدث لإطلاق طابور من الانتقادات في حين ذكرت وسائل الإعلام بما قاله في نفس السياق الجنرال دي غول والرئيس جاك شيراك و باقي الرؤساء الذين باركوا مشاركة الماريشال بيتان.
و ختم ماكرون سلسلة الجدل بإعلانه عن نية فرنسا تشكيل جيش أوروبي للدفاع عن أوروبا من خطر روسيا والصين و... والولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما أغضب الرئيس دونالد ترامب الذي اعتبر عند وصوله لباريس أن ذلك «شتيمة» من قبل ماكرون و أن على فرنسا أن ترفع بدلا من ذلك من نسبة مساهمتها في منظمة الحلف الأطلسي. و كانت فكرة تكوين جيش أوروبي قد ناقشها ماكرون مع أنجيلا ميركل بدون تحديد موقف مشترك. لكن توقيت الإعلان عن تشكيل جيش أوروبي عندما تحتفل باريس بإرساء السلم في العالم، و بالرغم من هذا التضارب، يشكل رسالة واضحة للرئيس الأمريكي المدافع على المواقف القومية و على البريكسيت.
ترامب يقاطع منتدى السلام
الحدث الأهم بالنسبة للرئيس الفرنسي هو تنظيم «منتدى السلام» الذي يشارك فيه أكثر من 70 رئيس دولة و حكومة من أجل تدعيم نظام عالمي متعدد الأقطاب لحماية السلم في العالم و العمل على عدم الرجوع إلى الإجراءات العسكرية للتوصل لحلول للمشاكل الدولية. و أعلن الفريق الأمريكي أن الرئيس ترامب سوف يشارك في الاحتفال بيوم 11 نوفمبر دون المشاركة في منتدى السلام مشيرا بذلك أن الولايات المتحدة أصبحت تتموقع خارج المنتظم الدولي و ربما ضد باقي الدول العظمى.
ويترأس المنتدى، الذي تريده فرنسا حفلا سنويا، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وتفتتحه المستشارة الألماني أنجيلا ميركل. و قام الجانب الفرنسي المنظم للمنتدى بتحضير عدد من المشاريع المشتركة فاق ال 120 ، مدعومة من أربعين دولة ومنظمة دولية، من أجل تجسيم التعاون والبعد عن الجدل و الخطابات الجوفاء. وعملت الدبلوماسية الفرنسية منذ أشهر على تركيز المنتدى كمناسبة سنوية تحتفي بها الدول بالسلم العالمي.
ماكرون الذي يتمتع بصورة قوية في العالم لا يزال يشكو من هزة في شعبيته على المستوى الداخلي. وهو يريد أن يستغل هذه المناسبة، التي يظهر فيها بمثابة زعيم دولي نافذ ، من أجل استرجاع شعبيته المفقودة. أول محطة تواجهه في هذا المسار هو الإضراب المبرمج يوم 17 نوفمبر القادم من قبل مستعملي الطريق و الذي التحقت به منظمات اليمين المتطرف و اليمين السيادي من أجل التنديد بسياسات ماكرون. وبدأت المناورات قبل بداية المنتدى من أجل السلام بإعلان بعض التنظيمات اليسارية و الإيكولوجية عدم مشاركتها في هذا اللقاء الساخن المبرمج. وذهبت بعض الجهات إلى التظاهر في الشارع ضد عزم منظمي الإضراب شل الحركة في فرنسا ومنع المواطنين من استعمال الطريق. وهي مناسبة للرئيس ماكرون للمطالبة باستفاقة جماعية أمام مخاطر الانعزال و للتنديد بالمد القومي المتطرف الذي يذكر الجميع ببروز الفكر الفاشي بعد الحرب العالمية الأولى و الذي أدى إلى مأساة الحرب العالمية الثانية مع استفحال الفكر النازي.