لأول مرة بمقتله داخل قنصليتها في اسطنبول في الثاني من الشهر الجاري وسط ادانات دولية واممية ، فقد اعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس عن «انزعاجه الشديد» إثر تبلّغه بمقتل خاشقجي. مشددا على ضرورة إجراء تحقيق سريع ومعمّق وشفّاف في ظروف وفاة خاشقجي وعلى المحاسبة التامّة للمسؤولين عنه». ولقد امر الملك سلمان بن عبد العزيز بإعفاء نائب رئيس الاستخبارات العامة أحمد عسيري ومسؤولين آخرين في جهاز الاستخبارات، من مناصبهم، الى جانب ايقاف 18 سعوديا على ذمة التحقيق ..في محاولة للملمة هذه الفضيحة عبر تقديم بعض الرؤوس الكبرى و اسكات الرأي العام المحلي والاقليمي والدولي بعد ان تحول «مصير خاشقجي» الى قضية رأي عام دولي ...
وقد وضع هذا الملف علاقات السعودية مع حلفائها الاقليميين والغربيين على المحك ... ولعل اللافت هو تصريح الرئيس الامريكي دونالد ترامب الحليف الرئيسي للولايات المتحدة بأن «التفسيرات التي قدمتها الرياض لملابسات مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي «جديرة بالثقة»، واصفا اياها بأنها»خطوة أولى مهمة». مشيرا الى انه لا يزال من المبكر جدا مناقشة فرض عقوبات على المملكة. موقف يؤشر على تردد ادارة ترامب بشأن اتخاذ أية خطوة قد تؤثر على علاقاتها مع الرياض التي كانت حتى الامس القريب تمر بعصرها الذهبي مع تطابق الرؤى السعودية والامريكية في عديد القضايا الشائكة في المنطقة ، وفي مقدمتها الخصومة مع ايران والحرب في سوريا والقضية الفلسطينية وغيرها ...
لقد أكّدت الرياض فجر امس للمرة الأولى، أنّ خاشقجي قُتل في قنصليتها بإسطنبول إثر وقوع شجار و«اشتباك بالأيدي» مع عدد من الأشخاص داخل مبنى القنصلية، وكانت طوال الايام الماضية تنفي كل الانباء التي ترددت من مصادر استخباراتية تركية وامريكية بشأن مقتله..في وقت لا تزال فيه عائلة الصحفي السعودي تنتظر جثمانه لتوديعه وتتساءل بأي ذنب قتل وما الجريمة التي اقترفها ليلقى هذا المصير المظلم...
لقد دفع الرجل باهظا من دمه وحياته ثمن مواقفه المعارضة والمنتقدة لسياسات الرياض ... خاشقجي الذي عمل رئيسا لتحرير صحيفة «الوطن» السعودية، وتولى منصب مستشار للأمير تركي الفيصل، السفير السعودي السابق لدى واشنطن، يبدو ان علاقته مع ولي العهد محمد بن سلمان لم تكن على ما يرام وهذا ما دفعه الى مغادرة البلاد بعد تعيين الأمير بن سلمان وليا للعهد. وأقام في الولايات المتحدة منذ أكثر من عام في منفى طوعي، دأب خلاله على كتابة المقالات في صحيفة « واشنطن بوست» وكانت سلاحه الوحيد للتعبير عن امتعاضه من السياسات التي ورطت بلاده في مستنقع من الحروب والدمار في اليمن ، كما كان ينتقد تعامل السلطات السعودية مع الصحفيين والنشطاء.
وتسلط قضية خاشقجي الضوء على الصراع على الحكم في مملكة عاشت مراحل هامة من الاضطراب والنزاع الدموي على السلطة . فلم يكن جمال خاشقجي أول معارض سعودي يواجه هذا المصير، فالمعارض الراحل ناصر السعيد كان من اشرس المنتقدين لسياسات الحكم في الرياض، وكان يعمل في شركة «أرامكو»، أين خاض إضرابات ضد ظروف العمل الشاقة، وتحول اثرها الى اهم معارض في تاريخ المملكة، وكان مصيره السجن كغيره من النشطاء السعوديين المدافعين عن حرية الرأي والقلم والتعبير...
دماء خاشقجي التي هدرت في قنصلية بلاده وأخذت روحه غدرا ... ستكلف السعودية باهظا ..فلا شيء يبيح تصفية معارض بهذا الشكل ...ولعل اولى تداعياتها هو الغاء رجال اعمال غربيين مشاركتهم في مؤتمر اقتصادي مهم سينطلق الاسبوع القادم ..
الانباء التي اكدتها واسائل انباء تركية بان خاشقجي تعرض للتعذيب والقتل تعيد الى الاذهان الملف الحقوقي والإنساني في المملكة الذي لا يزال نقطة سوداء في تاريخ الرياض وسياساتها وسيبقى عثرة كبرى امام محاولات الاصلاح الشكلية والرمزية التي لم تصل الى مرحلة سيادة القانون واحقاق العدالة في بلد تهدر فيه دماء الصحفيين ويخمد فيه صوت كل معارض بهذا الشكل وبعقلية الانتقام المدوي .. فمقتل الصحفي السعودي وملابساته المأساوية هي جريمة دولة من «الطراز الخطير» وتضع المملكة امام تحديات كبيرة لا يعرف احد الى اين تصل . وتؤكد بان المعركة من اجل الحريات واحترام حرية الرأي وقدسية القلم ، ما تزال طويلة وشاقة في المملكة...