منبر: فاتورة إسقاط الطائرة الروسية كم تبلغ ومن سيدفعها؟

صلاح النشواتي
باحث ومحلل السياسي
لم تكن حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي دبرها سلاح الجو للكيان الإسرائيلي حدثاً عرضياً،

ولا حتى ضرورة تكتيكية لحماية الطائرات المهاجمة من الصواريخ السورية، إنما حملت فيها بعداً خطيراً جداً لم يظهر للعلن على هذه الشاكلة من قبل، حيث هدفت هذه الهجمة إلى الإيقاع بين كل من روسيا وسوريا، وتصعيد الملف أمام الرأي العالمي، لخلق مساحة أكبر لعمل جيش الكيان الإسرائيلي ضد كل من سورية وإيران في الداخل السوري، كخطة محكمة بتطويق إيران من كل الجهات وتحويل القواعد الروسية والتواجد الروسي في سوريا إلى عامل معيق وسد منيع ضد النشاط الإيراني، بطريقة السعي الإسرائيلي لإلقاء اللوم على النشاط الإيراني الذي يحفز رد الفعل الإسرائيلي والتي ذهبت ضحيته روسيا بخطأ سوري، هذه الخطة وضعت في إطار زمني بالغ الحرج، حيث إعلان الاتفاق بين كل من بوتين وأردوغان في سوتشي والذي تضمن وقف اطلاق النار في إدلب وسحب القوات بعمق 15كم عن خطوط الاشتباك.

ولكن ما كان يعني إسرائيل ليس إدلب والاتفاق حولها، وإنما ماحمله أردوغان للمساومة به بشأن ملف إدلب مع بوتين، حيث حمل معه أهم الأحلام الإسرائيلية التي أيقظتها تركيا مؤخراً بعودة فتح المباحثات مع إسرائيل حول إعادة السفراء وترميم العلاقات الثنائية، ووضع رؤية للتعاون حول ملف الطاقة وبالأخص ملف الغاز، حيث قبلت تركيا المفاوضة على خط الغاز المصري الإسرائيلي «ايست ميد» وإنهاء الخلاف القبرصي بين قبرص اليونانية والتركية ما يعني تقليص تكاليف البناء للأنابيب لأقل من الربع وخفض مبالغ التأمين بشكل خيالي وفتح السوق الأوروبي أمام الانتاج الإسرائيلي والمصري، على حساب الحصة الروسية وخط الغاز الروسي الجديد «السيل الجنوبي»، مقابل توسط إسرائيل لعودة العلاقة التركية الأمريكية وإنهاء الصدام إذا اضطر الأمر، لكن مالم تكن تدركه حكومة الاحتلال هو أن هذه المفاوضات السابقة لم تكن إلا خطة احتياطية اردوغانية في حال إصرار موسكو على تصفية الدور التركي كاملاً في سورية، بسبب ما لذلك من تداعيات على الدور التركي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بالكامل، إلا أن إدراك الرئيس بوتين لموقف أردوغان وتداعياته، شجع نحو إتمام اللقاء باتفاقيات ثنائية على عدة مستويات والتأكيد على الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين، بالإضافة إلى الاتفاق حول إدلب السورية الذي توج كل التفاهمات السابقة، بالتالي وجدت إسرائيل نفسها محاطة بمستقبل طاقوي محبط، ومقبلة على خسائر مادية باهظة، بسبب تزايد التهديد الإيراني من جهة، وتحول مصر من مستورد للغاز من المحتل الإسرائيلي إلى منتج هائل له من جهة ثانية، فكان لابد من إنشاء خطة عسكرية استخباراتية إسرائيلية محكمة لتطويق إيران، وتوتير العلاقات بين الشركاء في سورية، واعادة استمالة روسيا من مبدأ الأمن القومي الإسرائيلي كنقطة توافق روسية أمريكية قد تؤسس لتقارب جديد كخيار الضرورة لروسيا تحت تأثير تحشيد قوات الناتو في المتوسط، وضغط الملف الكيميائي.

كل هذه المعطيات أصبحت واضحة للقيادة الروسية بعد التأني بدراسة الحادثة والمعلومات الدقيقة التي قدمها جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية والتي ساعدت على توفيرها المعلومات التي كانت توفرها الطائرة المنكوبة بسبب حجم وتطور أجهزة الاستطلاع والتجسس الموجودة فيها، لينقلب السحر على الساحر، وتنكشف النوايا الإسرائيلية والتي كانت أشبه بحادثة استهداف إسرائيل لسفينة البحوث التقنية الأمريكية (USS Lebrety) في حرب 1967 لاتهام مصر بها، بالتالي أصبحت موسكو على يقين شديد بأن المصالح الإسرائيلية بدأت تتضارب مع المصالح الروسية في الشرق الأوسط بشكل كبير ومباشر، وأن الكيان الإسرائيلي لايسعى لتسوية مشتركة لهذه المصالح أو تفاهمات مستقبلية، وإنما لتوريط روسيا وعزلها في شرق المتوسط، مايعني تورط الكيان الإسرائيلي بدور عدائي كبير مشترك مع الناتو، على عكس ماكانت تحاول إسرائيل تصوير نفسها على أنها راغبة في أن تكون جزءا من الاقتصاد الأوراسي، وهو ما جعل الكيان الإسرائيلي يترك خلفه فاتورة تعويضات كبيرة يجب في النهاية على أحد ما أن يدفعها.
ومجرد إعلان الرئيس بوتين تسليم منظومة الدفاع الجوي S-300 إلى سورية بالإضافة إلى تحديث المنظومة الرادارية السورية لتصبح إسرائيل عاجزة حتى عن استهداف هذه المنظومة، يعني أن المعني بدفع الفاتورة لم يعد فقط الكيان الإسرائيلي، وإنما الجيش الأمريكي وقوات الناتو التي يتزعمها، وهو مايعتبر متغيرا بالغ الأهمية، حيث سيؤدي إلى أمرين

رئيسيين تعتبرهما كل من واشنطن وتل أبيب من مهددات الأمن القومي لكلا البلدين، الأول سيعزل السماء السورية عن أي نشاط جوي إسرائيلي أو أمريكي وينهي التفوق الجوي، والذي يسمح بدوره للجيش السوري التوجه لمواجهة القواعد الأمريكية في شرق الفرات وخلق تهديد عسكري كبير وخطير للقواعد الأمريكية التي ستتحول إلى أهداف سهلة عوضاً من أن تكون نقطة ارتكاز جيواستراتيجي، والأمر الثاني هو تأمين تغطية كاملة للقوات الإيرانية ولحزب الله لممارسة النشاط المعادي لإسرائيل بحرية مطلقة، وتوحيد الجبهات، ورفع الأمكانيات القتالية إلى حد كسر التوازن بين محور المقاومة وجيش الاحتلال، والذي بدوره يعلن عن اصطفاف جديد لروسيا، ورؤية جديدة لمستقبل المنطقة الأمني والجيوسياسي، بعيداً عن الرؤية القديمة والمتمثلة بالأمن الجماعي والتي كانت تشمل الكيان الإسرائيلي، الذي أثبت لموسكو أنه غير جدير بها، وبأنه شر على الجميع لايمكن تحقيق الأمن والاستقرار معه من خلال مراعاة مصالحه، ومن هنا نقول أن حادثة إسقاط الطائرة الروسية لم تكن حدثاً بحد ذاتها بقدر ماكانت بداية بمرحلة وسلسلة جديدة من الأحداث والرؤى، حيث عبرت العلاقات الروسية الإسرائيلية نقطة اللاعودة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115