مظلة هيمنة الدستور الضمني « أو البقاء للأقوى» أو البقاء لمن يوثق حباله بالمجتمع الدولي أو كلاهما»، بحيث يتفوق الكسب التأويلي عن الكسب المكتوب، في غياب عدم الحماية، يستمر إضمحلال وغياب مفهوم دولة القانون.
رغم إنقضاء الفترة الزمنية المحددة لأعمال لجنة الدستور لمدة تجاوزت الثلاثة أعوام، ومنذ أكثر من أربعة أعوام، وتحديدا منذ أفريل لعام 2014، وإنطلاق عمل الهيئة التأسيسية في ديسمبر لنفس العام، والذي سبقته الكثير من التحديات السياسية والدستورية متمثلة بتعديلات دستورية بشأن «الإعلان الدستوري المؤقت وتعديلاته»، الصادر في الثالث من أوت لعام 2011، بفصوله الخمسة، ومواده 37، وبتجلي عدم نضوج الفكر السياسي والدستوري (مع وجود ضغوطات مؤثرة في صنع القرار)، فقد تم إدخال العديد من التعديلات «السبعة تحديداٍ» في خلال فترة وجيزة بين عامي 2012 الى 2014، والتي اربكت المشهد السياسي والمسار الإنتقالي، وعملت على زيادة التشتت وتفاقم الخلافات، ومن ضمن تلك التعديلات الهامة في مسيرة دمقرطة ليبيا، هو تعديلا «الإشراف والمصادقة علي الانتخابات» و«العزل السياسي للتحصين».
مسارات انتقالية أخرى
يمكن اعتبار ان هناك مرحلتين في المسار الانتقالي الليبي، المرحلة الأولي «مرحلة التردي»(2011 - 2014) وشهدت مبادرة الإنقاذ الوطني، وكذلك إعادة الهيكلة السياسية ووقف عمل الأحزاب. اما المرحلة الثانية فهي مرحلة الصراع بين الكرامة وفجر ليبيا (2015 - 2018).
بدأ الصراع منتقلاٍ من كونه سياسيا في مرحلته الأولى، ليتطور الى صراع عسكري وذلك من خلال المرحلة الثانية، حيث رفض المؤتمر الوطني العام، قرار رقم (56) لعام 2014، تسليم سلطاته المنتهية وقتها وإقرار انتخابات مجلس النواب الليبي. وبعد إنتقال الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الى مدينة البيضاء، والتي تعرقلت خطواتها وتمزقت جهودها، في ظل تطور الصراع العسكري، والذي عمًق التطرف الجهوي، ودخول الصراع الديني في مقابل التيار الليبرالي، وأصبحت المصالح الشخصية المناطقية تغلب علي توجهات أعماله.
وبالرغم من ذلك، حاول القضاء الليبي (رغم الخلاف الفقهي بإختصاصه من عدمه) في إنهاء تفاقم الأزمات الدستورية القائمة، ولكن تلك المحاولات أثرت في ترتيب المراكز القانونية وانعكاساتها سلبيا على الاستقرار الدستوري للدولة. ومن ضمن تلك القرارات الصادرة عن القضاء (مختلفة)، قرار أصدرته الدائرة الادارية بمحكمة استئناف البيضاء في الدعوى رقم (65 2016- بجلستها المنعقدة بتاريخ 7 - 12 - 2016) حكماً مضمونه: إلغاء القرار الذي أصدرته الهيئة التأسيسية بالتصويت عليه يوم 16/4/2016 وذلك بتعديل (المادة 60 من اللائحة الداخلية)، والذي يعتبره البعض انتزاع اختصاص الدائرة الدستورية وأعطت لنفسها حق تفسير النصوص الدستورية.
كما تطور الموقف أيضا بعد تدخلات قضائية أخرى، وتحديدا في 16 - 8 - 2017، فتبعا للطعن المقدم من أحد أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، قضت دائرة القضاء الإداري بمحكمة استئناف البيضاء في الشق المستعجل بوقف القرار المطعون فيه، مرجئة البحث في الموضوع إلى وقت لاحق. وفسرت المحكمة قرارها المؤقت بناء على صحيفة الدعوى المقدمة لها والتي أعابت على القرار اتخاذه في يوم سبت وهو يوم عطلة أسبوعية، وليس من أيام العمل المقررة للدولة ومؤسساتها. وبناء علي القرار القضائي، عاد الجدل مجدداً في مستقبل مشروعية المسودة وتقديمها لمجلس النواب الليبي.
من يقرر دستور ليبيا؟
مسودة دستورية، يصفها البعض بأنها لا تساوي أحبارها بكل ما تعني الكلمة من معنى، ويصفها البعض بالمتناقضة والمتضاربة، ويذهب آخرون في تفسيرها بأنها عمل مختلط لا يرتقي لقيادة دستورية للبلاد ويعمل على تعميق الأزمات اللآحقة.
ودون الدخول في توصيفات المسودة وتفسيرها، ولكن من المهم وضع خطوط عريضة، فقد صُنعت المسودة لإرضاء توجهات متنوعة وقوة ضاغطة، كما لم تفصح عن شكل الدولة ولا عن نظامها، ولا تضع في حسبانها معالم نظام إقتصادي محدد، وكان آخرها المادة الثامنة المخالفة للإعلان الدستوري، والمتوافقة مع المزاج الدولي، من حيث اشتراط 51/بالمئة في المناطق الانتخابية الثلاث إضافة إلى الحصول على ثلثي المقترعين وحساب الواحد وخمسين في المائة من المسجلين وليس المقترعين.
والكثير.... فهي نتاجا لحقيقة مؤلمة الا وهي غياب منظور التحول الديمقراطي والتدخل الأجنبي، وضعف البنية الأساسية لموازيننا القانونية، وإنشقاق كيانات الدولة وصراعها السياسي والعسكري.
التدخل الدولي مقابل السيادة
لقد أصبح المجتمع الدولي المتربص لإخفاقاتنا هو من يقرر متى تعرض مسودة الدستور ومتى يُصوت عليها، وهو ما حصل في تواصل الدولتين فرنسا وإيطاليا. كما أصبح مندوب الأمم المتحدة يتخذون قرارات الدولة الليبية بتحديد خطواتها، بالإضافة لتتبع ميزانيات الدولة وتقريرها، والسماح ببيع النفط ومقدرات الدولة الليبية المتمثلة في المؤسسة الليبية للإستثمار ، والى من يتولى شؤون الرقابة، وغيرها من الشؤون الداخلية ذات الصلة.
لقد - وجهت سلطنة عمان - وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في مارس عام 2016، دعوة لجميع عضوات وأعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي لحضور لقاء تشاوري حول مسودة الدستور الليبي المزمع صدوره من الهيئة والذي سيقدم للشعب الليبي للاستفتاء عليه بهدف التشاور والتحاور حول القضايا الدستورية الباقية التي لم تحسم بعد، وتود البعثة التشديد على مبدأ الملكية الوطنية لمشروع الدستور الليبي . كما تود أن تشير أنه في إطار استضافتها للقاء فإنها ستكون الميسرة لأعماله وأنه مخصص لمناقشة القضايا العالقة، في مخالفة صريحة وتدخل ينافي ميثاق الأمم المتحدة، ومخالفة للحكم القضائي الليبي في منع عمل الهيئة خارج الدولة الليبية، وقد تم إستنكار هذا التدخل من الكثير من المواطنين والمراقبين، كما ذهب أحد أعضاء الهيئة الى إعتبار أن تصرف البعثة الأممية فيه خرق واضح لمبادئ المحاسبة و المساءلة و الشفافية، مطالبين بمساءلة البعثة الأممية ومحاسبتها.
لقد إستمر برنامج التدخل الأممي في كافة الشؤون الداخلية للدولة الليبية، الأمر الذي دعا أيضا دار الإفتاء في جانفي عام 2016 الى أن ترد بقوة على الملاحظات التي أبدتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، حول المسودة الأولى الصادرة عن لجنة العمل بالهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور والتي حملت جملة من المخالفات الشرعية. واعتبرت دار الإفتاء في بيان أصدرته أن هذه الملحوظات تدخل صارخ في الشأن الليبي الداخلي، موضحة أنها جاءت بعبارات مستفزة لمشاعر المسلمين، مضيفة أن الأمم المتحدة اعتبرت أنَّ بعض موادها انتهاك للقانون الدولي والتزامات ليبيا الدولية. وأكدت دار الإفتاء أنَّ هذا تعدٍّ صارخ للشأن الليبي، وتدخل في تشكيل هوية الشعب الليبي، التي إنَّما تصاغ الدساتير للحفاظ عليها.
يمثل هذا الوضع السيادة المنتقصة (وضع لا يمكننا الإعتراف بمخرجاته)، أمام منهج ممنهج أممي ، غير عابئ بكافة قرارات المحاكم «في كل أحوالها»، منهج نسير من خلاله لتعميق الشقاقات والخلافات الليبية الليبية، ويفاقم الأزمة الاقتصادية ويضعف كيانات ومؤسسات الدولة ومقدراتها، ويصب في مساقات مشروع الفوضى الخلاقة. فإن من الواضح، وبعد فشل الكثير من المخططات، ستكون الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، المقود لتنفيذ مخططات قادمة وتحقيق مشروعية برامج الدول المتدخلة، رغم محاولة بعض أعضاء اللجنة للتنبيه والتحفظ والإعتراض.