هل من ضماناتٍ روسيةِ لخروج تركيا من سوريا؟!

سومر صالح : كاتب ومحلل سياسي سوري

تركيا دولة احتلالِ موصوفٍ تعتدي على أراضٍ واسعةٍ في الشمال السوريّ،

ومخططها الاحتلاليّ يتزايد يوماً بعد يوم، بدءاً من عمليات ما سمي «درع الفرات» (24 اوت 2016 ) شمالي مدينة حلب وصولاً إلى عملية ما اصطلح عليه «غصن الزيتون»(19 ديسمبر 2018)، بذرائع وجود تنظيم ‹›داعش›› الإرهابيّ أو الوحدات الكردية ذات النزعة الانفصالية، ويجري هذا الاحتلال الممنهج والمخطط تزامناً مع وجود تفاهماتٍ روسيةٍ إيرانيةٍ تركيةٍ في أستنة، بما يعطي انطباعاً أولياً على أنّ سياق أستانة سمح بالتوسع التركي برضىً أو تغاضٍ روسيٍّ، وتعزز هذا الأمر مع التشبيك والانفتاح الروسيّ الإيرانيّ الحاصل مع تركيا، هنا يصبح السؤال التالي مشروعاً وهادفاً في آنّ، ماهي الضمانات الروسية لانسحاب هذه القوات المحتلة عسكرياً من سورية؟! وهل هيّ كافية؟!، وهل تحمل مخالب عسكريةً ردعيةً على أقل تقديرٍ في حال تعنت النظام التركيّ أو تشبيكه مع المشروع الأمريكي المعاديّ التي تجمعها به علاقات تجاذبٍ وتنافرٍ في آن؟

تبدأ هذه الضمانات في التقدير الروسيّ من أسس عملية أستنة ذاتها ومنطلقاتها (30ديسمبر 2016) وهي وحدة وسيادة أراضي الجمهورية العربية السورية، وهو ما أكدت عليه كلّ قرارات مجلس الأمن ومنها ما يخص عملية أستنة أيّ القرار (2336)، فروسيا التي تقود جهوداً دوليةً لإيقاف الحرب على سورية تبني من خلال هذه الجهود نموذجاً روسيّاً لحلّ الأزمات الدولية في محاولةٍ لتقديم نموذجٍ متوازنٍ عن ثقافتها القطبية الجديدة، فلدى روسيا رؤيةٌ جديدةٌ لعالمٍ متعدد الأقطاب، هذه الرؤية تمتلك أدواتٍ ونهجاً تطبيقياً في سبيل بلوغها.

ولعلّ النموذج والأدوات تعتبران بحدّ ذاتهما ضمانةً قويةً لمنع تكريس الاحتلال لأنّ بقاء التركيّ محتلاً يعني نسفاً ثقافياً وسياسياً لفكرة النموذج الروسيّ الجديد، وإسقاطاً لفكرة القبول الدوليّ بقطبية روسيا القادمة، وقبل الحديث عن الأدوات ينبغي تسليط الضوء باختصارٍ على النموذج الروسيّ «الروسنة»، فالمشروع الروسي لعالم متعدد الأقطاب مجسداً بالنزعة الأوراسية، ينطلق من أساسٍ ثابتٍ شرطيٍّ وهو قدرة روسيا على إنتاج رؤية ثقافية لذاتها، عبر إعادة إنتاج الوعي الروسيّ، ليغدو الإنسان الروسيّ كائناً انطولوجياً يأخذ كينونته من ذاته الروسية بروحها الأوراسيّ وليس من المرجعية الغربية، وهذا يتطلب أن تنتهج روسيا ليبراليةً محافظةً تتماشى مع الخصائص الروسية، فالفكرة الروسية للروسنة وإقامة النظام العالميّ بصيغته الروسية يقوم على تجاوز خطايا الحداثة الأوربية، وتصحيح مسارها بإعادة الروح إلى الفرد والفرد إلى الجماعة، وتفكك فكرة التقدم الحصرية الاتجاه في الثقافة الغربية، لتفتح الأفق لتعدديةٍ معرفية، قائمةٍ على فكرة تصدير مفهوم الهوية القومية والحضارية للشعوب عبر أدوات التثاقف الدوليّ بما فيها أدوات العولمة نفسها، بما يتيح إنهاء مفهوم صدام

الحضارات . أيّ أنّ «الروسنة» تقوم على معاكسة الجذر الأميركيّ للأمركة وهو تجاوز الهويات الوطنية لسببٍ بسيطٍ وهو فقدان الولايات المتحدة الهوية الحضارية، فأتى النموذج الروسيّ ليعيد بناء هذا الجذر كأساسٍ للعولمة المعاكسة، عولمةٌ تقوم على تعدديةٍ حضارية، وفلسفة العولمة الروسية البديلة تستغل ذات السياق المعولم لإعادة تشكيل البنية الثقافية للنظام الدوليّ من خلال مكونات ثقافتها القومية الجديدة «الروسنة»، والتي تعمل النخبة السياسية الروسية وعبر أدوات القوة الناعمة على ترسيخها في العلاقات الدولية، والتي يمكن إجمالها باطاٍر عامٍ وهو إعادة بناء المرجعية الفلسفية للنظام الدوليّ، وهي نقطة تتقاطع فيها الصين مع روسيا وتتكاملان في إعادة إنتاج نظام القيم الدولية الحاكمة للعلاقات الدولية نسبياً، باستخدام القوة الذكية والتي تنطلق من نظرية إعادة إنتاج القيم، والمبادئ الحاكمة للعلاقات الدولية بشكلٍ نسبيّ، عبر إعادة تعريف وتكريس لمفاهيم السّيادة والحدود والخصوصية الثقافية والوحدة الجغرافية واحترام إرادة الشعوب.

وتستخدم في ذلك أسلوب الخطاب السياسيّ بدايةً وصولاً إلى القسر عبر رفض تحويل منظمّات المنظومة الدولية لأدواتٍ لاختراق هذه المفاهيم، هذه القوة الذكية تهدف لبلوغ هدف ترسيخ المفهوم الروسيّ لإدارة النزاعات الدولية والذي يتجسد برؤيتين الأولى أولوية الاستقرار على الديموقراطية في حلّ النزاعات الدولية، أيّ تحويل الاستقرار إلى القيمة المركزية التي يجب الدفاع عنها في العلاقات الدولية وليس نشر الأنظمة الديموقراطية عبر الحروب وخلق الأزمات، الرؤية الثانية وهيّ اعتبار القانون الدوليّ هو المعيار الأساسي لإدارة العلاقات الدولية بشرط تحرره من الانحياز الأيديولوجي لليبرالية الغربية.

هذا النموذج الروسي يشكّل المدخل الفلسفيّ والسّياسيّ لاحتواء تركيا في أستنة ومابعده، وعليه من غير المسموح لتركيا البقاء على أراضي الدولة السورية وإلّا فإنّ فكرة النموذج تسقط، بما ينعكس على طبيعة علاقتها مع الحلفاء التقليديين لروسيا، ولأجل ذلك تعمل روسيا بشكلٍ حثيثٍ على زيادة الاعتمادية الاقتصادية التركية على روسيا بما يتخطى حاجز المئة مليار دولار، يضاف إليها البدء بزيادة الاعتمادية العسكرية والتقنية التركية على روسيا وتجلى ذلك بصفقات منظومات الدفاع الصاروخي (اس400) إضافةً إلى بناء مفاعلات الطاقة الكهرو ذرية، يضاف إليه محاولة زيادة الاعتمادية التركية سياسياً على روسيا لإنجاح المشروع الاستراتيجي التركي من أسيا الوسطى إلى البلقان حيث تتقاطع مصالح البلدين ثقافياً وسياسياً وتتعارض اقتصادياً.. مع خطر التصادم الجيبولتيكي، ومع ذلك يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً قائماً، ماذا لو أصرت تركيا على موقفها الاحتلالّي أو طرحت أجندات مناطق النفوذ على روسيا؟ او شبكت مع المشروع الأميركي؟، هل تمتلك روسيا وسائل ردعيةً عسكرياً؟ الجواب يكمن في فكرة النموذج الروسيّ ذاتها وهو ترسيخ مفهوم الدولة التي تحتكر شرعية السلاح وحدها، وأيّ سلاحٍ غير سلاح الدولة أو ضمن شرعيتها السّيادية هو إجرامٌ وإرهابٌ ينبغي القضاء عليه، فاذا أخلت تركيا بالتزاماتها التي تشمل سحب قواتها الاحتلالية وتسليم سلاح ميليشياتها إلى الدولة السورية بعملية تسويةٍ سياسيةٍ أو عسكريةٍ، فمن المتوقع أن تقطع يدّ النظام التركيّ بتصفية هذه المجاميع عسكرياً وبقوةٍ ضاربةٍ، وتشهد ساحات إدلب اختبار الصبر الروسيّ والسوريّ، دون إغفال المخالب العسكرية والسياسية والاقتصادية الروسية في محيط تركيا.. إن تراجعت تركيا عن علاقتها بها على حساب تجديد التحالف الاستراتيجي التركي مع واشنطن.

والشعب السّوري بجيشه الوطنيّ العقائديّ الذي خاض حرباً عن العالم ضدّ الإرهاب ينظر إلى النموذج الروسيّ لشكلٍ جديدٍ في العلاقات الدولية بأملٍ وإيجابيةٍ لأنّه قائمٌ على مبادئ المحافظة على وحدة الدولة وسيادتها وحرية قرارها، ويبقى خياره في مقاومة الاحتلال على رأس أولوياته الوطنية..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115