منبر: الديمقراطية زمن «الشاحنة الناطحة»: الإنتخابات التشريعية البريطانية والإرهاب

(محمد صالح عمري، أستاذ باحث بجامعة أكسفرد)

بعد نجاح اليمين الإنعزالي البريطاني في كسب الإستفتاء الذي شرّع

للخروج من الإتحاد الأوروبي (بركست)، أحست الوزيرة الأولى البريطانية، تيريسا ماي، أنّ اللحظة سانحة لإحكام سيطرة حزبها على البرلمان وتدعيم موقفها في المفاوضات المعقدة لفكّ الإرتباط مع أوروبا فأعلنت إنتخابات عامة سابقة لأوانها. كان ذلك بعد التأكّد من تراجع شعبيّة مُنافسها الرئيسي حزب العمل وتفاقم خلافاته الداخلية وضعف رئيسه جرمي كربن. وزاد من جرأتها انتصارات ملحوظة للشعبوية اليمينية عبر العالم لعلّ أهمّها وصول دونلد ترمب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية وصعود موْجة حركات مشابهة بفرنسا وهولندا وغيرها. وتغذي كل ذلك نزعة إلى الإنعزال والإنكفاء على القطر مع معاداة للهجرة وللسياسات التقدمية الصاعدة في أمريكا نفسها كما في إسبانيا واليونان وفرنسا وغيرها في وضع سياسي متحرك على خلفية الإنتفاضات العربية.

ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. فقد إرتأى حزب العمل من جهته أن اللحظة مناسبة لتحويل الإنتخابات المبكّرة إلى نوع من الإستفتاء حول السياسات الإجتماعية والإقتصادية لحكم المحافظين وتقديم بديل راديكالي عنها، من أبرز محاوره الملكية العمومية لوسائل النقل وإلغاء الرسوم على التعليم العالي وتدعيم المنظومة الصحية العمومية وترفيع الضرائب على الأثرياء. كان في الأمر مجازفة ولكن كوربن الذي فاز برئاسة حزب العمل مرّتين بفضل ما عُرف عنه من نزاهة وقدرة على جذب الشباب نحو المشاركة السياسية والعودة إلى المبادئ المؤسّسة لحزبه مثل العدالة الإجتماعية والمجتمع المفتوح، وجد صدى إيجابيا لدى العديد وبدأ تدريجيا في تقليص الهُوّة بين الحزبين، إذ انتقلت من 20 % منذ شهرين إلى أقل من 3 % حاليا، مع ارتفاع لا سابق له في عضوية الحزب (زيادة بـ300 الف عضو جديد).

ما علاقة كل هذا الحراك بالإرهاب المتنامي ببريطانيا؟
علينا أن نقرّ – بدءا - بأن الإرهاب ليس أعمى، كما يشاع، وليس فوضويا كما يُعتقد. ولعلّ في العمليات الإرهابية في فرنسا، ثم في بريطانيا بعدها، خير دليل على ذلك. فبين مدينة نيس الفرنسية التي افتتحت عصر ما تسمّيه داعش «الشاحنة الناطحة» كأسلوب ترهيب وقتل عشوائي للمدنيين والشاحنة التي دهست العشرات على جسر لندن، خيوط وروابط سياسية بالأساس. فقد بادر الإرهاب المستند إلى الإسلام، بقطع النظر عن تسميته، بعملية تبدو متناقضة ولكنها منطقية ومنهجيّة تتمثّل في تطوير الأساليب وأَقْلَمتِها مع الإكتشافات المعاصرة، من الطائرة المدنية الناطحة لناطحات السحاب بنيويورك إلى الإبداع في تطوير وإخفاء المتفجرات إلى حذق صناعة الصورة وغيره. وهذا التماهي مع التكنولوجيا والحياة العصرية- في الغرب - يقابله نُكوص وتكلّس ورَجعة في المفاهيم والقيم ومصادر الإستلهام واللغة (السبي، جهاد النكاح، الإحتطاب، النطح، البيعة....) التي لا جذور لها في المجتمعات الغربية. والحركات الإرهابية بهذا وذاك تمارس الترهيب والتمكين بشكل مبرمج ومتراكم، منذ تعليمات حسن البنّا إلى «إدارة التوحش»، مرورا بسيد قطب وأسامة بن لادن وغيرهم من الدعاة الذين رعتهم أوروبا نفسها. وهي تتبع في ذلك استراتيجية قارّة وإن اختلفت الأساليب.

فالإرهاب المتمترس بالإسلام والمنتشر لدى مسلمي المهجر يتغذى بزرع سياسات الحقد والكراهية لدى الرأي العام الغربي حتى تصل المواجهة إلى الصراع المفتوح والعنف ضد الأقليات المسلمة وتدعيم عزلتها، ومن ثمّ تحويلها إلى أرضية قابلة للدمغَجة والتجنيد. (فهناك تناغم بين هذا الإرهاب والحركات الفاشية والعنصرية بحكم الأيديولوجية الشمولية التي تحكمهما وأساليبهما المشتركة. ألم تستعمل اسرائيل سياسة الإرهاب والترويع وزرع الحقد على يهودالعالم العربي كي تفرض عليهم الهجرة إليها؟). يزرع الإرهاب الخوف فيحصد المحافظون والعنصريون الأصوات الانتخابية والتعاطف الشعبي. يزرع الرعب فترتفع الإسلاموفوبيا والعنصرية. ولذلك وبشكل محسوب، تتواتر العمليات الإرهابية تزامنا مع ميْل الرأي العام عكس ما تصبو إليه الحركات الإرهابية أو في فترات ارتفاع الحراك السياسي. ففي بريطانيا تزامن الحراك السياسي الانتخابي المذكور سابقا مع ثلاث عمليات إرهابية خلال ثلاثة أشهر (البرلمان ومانشستر وجسرلندن) وتأثّر بها. والدليل على ذلك أنّ ردّة الفعل الرسمية والإعلامية على العمليات الإرهابية تمثلت في تعليق الحملات الانتخابية وتوجيه الحوار كلّيا نحو موضوع الإرهاب وحصر الصراع في مسألة أي المتنافسين أقدر على قيادة الحرب على الإرهاب. وبذلك نجح الإرهاب في إبعاد الرأي العام عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الجوهرية للبلاد، ولو إلى حين، كما وضع الجالية المسلمة في مواجهة الحس الشعبي الغاضب.

فبريطانيا تشهد صعود سياسات وبدائل قد تدفع إلى تجفيف المستنقعات التي يعيش فيها الإرهاب والتطرف ومنها يستمد قوّته، ومن ضمنها السياسة الخارجية. فقد كان كوربن أبرز معارضي بلاده في الحرب على العراق بينما جعل حزب العمل أحد أولويات سياسته تجاه الإرهاب مراجعة علاقات البلاد بممولي الحركات الإرهابية مثل المال السعودي والقطري. أما على المستوى الداخلي فقد وعد الحزب بمجتمع أكثر عدلا واحتراما للحريات والحقوق بما فيها حقوق المهاجرين والأقليات. من جهة أخرى من المعروف أنّ المحافظين، في بريطانيا كما في غيرها، يقدّمون أنفسهم على أساس أنهم الأكثر كفاءة واستعدادا في مجال الأمن. وتيريزا ماي كانت وزيرة الداخلية في حكومة ديفيد كامرون وتفتخر بدورها في حماية البلاد والعباد، كما تتهم منافسها بماضيه «المهادن» و»الرّخْو» فيما يخص استعمال القبضة الأمنية عموما والدفاع عن حدود البلاد ومصالحها. وعلى المستوى الخارجي رفض المحافظون التعرّض لدور السعودية في تمويل الإرهاب (ألم تكن أولى زيارات تيريزا ماي إلى السعودية بالذات؟).

علاوة على ذلك لم يرتفع الى الآن أي صوت للمطالبة بمحاسبة المسؤولين البريطانيين عن تسهيل عمل الإرهابيين وحمايتهم، لا من حزب المحافظين ولا من حزب العمل . بل إنّ المسكوت عنه في السياسة البريطانية، بما في ذلك في الحملات الانتخابية الراهنة، هو ملف المسؤولية السياسية لزرع الاٍرهاب داخل البلاد. ألم تحتضن بريطانيا بالذات رؤوس الاٍرهاب والإسلام السياسي بمختلف توجهاتهم، من ابو حمزة وأبو قتادة الى راشد الغنوشي والهاشمي الحامدي؟. ولا يزال دور اريطانيا في القضية الفلسطينية كما في علاقتها بالدكتاتوريات العربية خارج النقاش الإنتخابي.

ورغم ذلك فإن صعود شعبية وجاذبية الحركات التقدمية والحاملة لمشروع مجتمع أكثر عدلا وقبولا للاختلاف يبقى، في النهاية، كابوس الاٍرهاب وكابوس مُموِّليه ورُعاته. فنتائج الانتخابات الفرنسية والرفض الشعبي لليمين العنصري الفرنسي والهولندي وتزايُد عزلة الرئيس الأمريكي بيّنت أنّ ما يسمى الانعطاف نحو اليمين ليس بالقوة التي يصوَّر بها او يسوَّق لها. فهل تكون الانتخابات القادمة في بريطانيا منعرجا نحو أمل جديد في إيقاف موجة اليمين الصاعد وردا بنّاء على الإرهاب في نفس الوقت؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115