أبو العباس ابرهام الباحث المختصّ في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجامعة أريزونا الأمريكية لـ«المغرب»: «مقاتلو المعارضة فرّقتهم خلافاتهم المذهبية والأميرية حتّى هزموا أمام قوات الأسد في حلب»

مفاتيح المعادلة السورية والمشهد الراهن في دمشق، تداعيات فوز نظام بشار الأسد في معركة حلب ، وتداعيات استعادة هذه المدينة الاستراتيجية على واقع المنطقة والعالم في الفترة المقبلة ، الادوار التي تلعبها اطراف خارجية باختلاف اهدافها في الميدان السوري وغيرها من الخطوط العريضة للمعادلة في سوريا

 كلّ هذه الملفات كانت محور حوار لـ«المغرب» مع الباحث والأكاديمي بجامعة أريزونا الامريكية أبو العباس ابرهام.
وأبو العباس ابرهام هو كاتب وصحفي موريتاني معيد بقسم دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجامعة أريزونا، الولايات المتحدة الأمريكية صاحب كتاب آلاف السنين في الصّحراء: تاريخ موريتانيا من البواكر حتّى اليوم» وكتاب تاريخ العقلانية الإسلامية،أهل الرّأي والمعتزلة وله عديد الدراسات والبحوث المنشورة دوليا .

• منذ أسبوع دخلت الحرب في سوريا منعرجا جديدا عندما تمكّنت الحكومة السورية من استعادة حلب. ما هي معركة حلب وما هي دلالاتها؟
لننظر أولاً إلى أساسيات المسألة لأن الأساسيات تغيب في الجدالات الرائجة. كما هو معروف فإن «معركة حلب» هي، لحدِّ الآن، أهّم معارك الحرب الأهلية السورية المشتعلة منذ خمس سنوات. وقد وصفها الثوار أنفسهم بـ«أمّ المعارك» بينما في الغرب لا يعدم المرء وجود من يُسمِّيها بـ«ستالينغراد» الحرب السورية، مقارِناً بينها وبين المعركة المصيرية في 1942-1943 في الحرب العالمية الثانية. وقد شهدت إلى حدِّ الآن مصرع ما يُقارِب الـ25000 قتيل من صفوف المُعارضة والمدنيين وحدهم. ومن الأرجح أن الآلاف سقطوا في صفوف النظام (يعتقد روبرت فيسك أن حوالي 75000 مقاتل من النظام السوري سقطوا منذ بدء الحرب). وقد حصدت معركة حلب لحدّ الآن عشر قتلى الحرب الأهلية.

معركة حلب دائرة منذ جويلية 2012 عندما نجحت قوات المعارضة في هزم حامية نظام الأسد والنفاذ إلى حلب الشرقية وتوطيد وجود عسكري مُسيطِرٍ بها. وقد كمنت أهمية هذه السيطرة في كونها أولاً كسرت مروية نظام الأسد أنّه يُسيطِرُ على “سوريا النافعة”، المُتمثِّلة في منطقة المدن الكبيرة (حلب وحماه وحمص ودمشق)، بينما لا يُسيطِر المعارضون إلاّ على الصحاري والقرى النائية (وبالأخصِّ أرياف إدلب ودرعا). ورغم أن حلب الشرقية، التي سيطر عليها الثوار، بقيت دون حلب الغربية، التي سيطر عليها الأسد، وبقيّت أصغر منها كثافةً ومساحةً، إلاّ أنها كانت جزءًا كبيراً من كبريات المناطق الاقتصادية والسياحية في سوريا حيث تضمّ المدينة القديمة التاريخية. وإضافة إلى ذلك فقد سمحت سيطرة الثوار عليها بتأمين حديقة خلفية إلى الحدود مع تركيا، ما سمح بتأمين تدفُّق المقاتلين والمتطوعين والجهاديين من الخط التركي. والواقع أن المعركة الأخيرة لـ«تحرير حلب» في جويلية 2015 حتّى ديسمبر الحالي لم تقم إلاّ وكان المقاتلون الثوار قد نجحوا في حشد آلاف المقاتلين وكانوا غالباً أكثر من المقاتلين الذين نجح النظام السوري في حشدِهم من الخارج.

إلاّ أن ما يُعنى بمعركة حلب الآن هو الهجوم الذي شنّته قوات الأسد منذ جويلية الماضي وأحكمت فيه حِصاراً على المدينة مانِعة قدوم التعزيزات للثوار. وفي سبتمبر وأكتوبر الماضيَين قام الثوار بهجوم مضاد لكسر الحصار؛ ولكنّه فشل. وقد استخدَمت قوات الأسد أسلوباً وحشياً في الحرب، مُوظِّفة أسلوب الأرض المحروقة فدمّرت المستشفيات والمدارس والأسواق لتدمير الحياة الأهلية وتعجيل انكسار “الثوار”. مع نوفمبر كان مفاوضو المعارضة في تركيا قد بدأوا يُقدِّمون طلبات الاستسلام والإجلاء من حلب. ومع منتصف ديسمبر الحالي سارعت ضربات نظام الأسد وحلفاؤه في هزيمة خيار المواجهة وأفضت إلى كسر النظام المُعارض في شرق حلب.

• ألا يبدو واضحا انّ طبيعة الحرب في سوريا افرزت اصطفافا طائفيا؟
ليس تماماً. لنلاحظ أولاً أن الأساس الطائفي للنظام السوري كان قائماً، خلافاً لسرديته أنه نظام علماني، ولكنه لا يصفُ كلّ الصورة، وخصوصاً الجانب الطبقي لسوريا الحديثة. لقد أظهرت أبحاث المفكِّر والمؤرِّخ العراقي الراحل، حنّا بطاطو، منذ منتصف وأواخر التسعينات البعد الطائفي لنظام البعث السوري.أما سردية طائفية الحرب الحالية فهي سردية أذاعَها على السواء الصالون القطري-السعودي ومُكتتبو الجيش السوري من الميليشيات الشيعية في أفغانستان والعراق وباكستان من أجل تديين الحرب وتسهيل اكتتاب المُقاتِلين لصالِحهم. أما لو نظرتِ إلى الوضع في سوريا فيتبيّن أن الانفصام الطائفي لم يَقُم بعد. مثلاً يُسيطِرُ نظام الأسد على جلّ المُدن السنية في حماه وحمص ودمشق؛ ومن الواضِح أن أهل هذه المدن لم ينشقوا كلّهم في انتفاضة طائفية. ثانياً معظم اللجوء والنزوح يتمُّ إلى

المناطق الآمنة، التي يُسيطر عليها نظام الأسد. ومن نافل القول إن الحرب الأهلية بسوريا أولدت أكبر حركة نزوح ولجوء منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن النزوح الأكبر ليس الخمسة ملايين نازح سوري إلى الخارج، وإنما النزوح إلى الداخل، الذي وصل إلى سبعة ملايين أو يزيد. أكثرية هؤلاء، وهم سنة، ينزحون إلى مناطق ذات أغلبية سنية ويحكمها نظام الأسد ولا ينفصم فيها تحالف البرجوازية السنية عن النظام الاقتصادي-القيمي المُسيطِر. ثالثاً كثيرٌ من المقاتلين إلى جانب النظام السوري هم من السنة سواء تحدّثنا عن المقاتلين الفلسطينيين أو الأكراد أو الحزب السوري القومي الاجتماعي. رابعاً، يُعتقد أن الانفصام الطائفي أقلّ ظهوراً، إن لم يكن معدوماً، لدى القبائل البدوية والريفية السنية، التي تُبايع نظام الأسد لمصالح تقليدية (مع أن ثمة حركة ثائرة في أرياف دمشق وإدلب). خامساً، ليست كلّ أيديولوجيا المُقاتلين السنة طائفية فكما يُبيّن بعض الدارسين فإن كثيراً من نظرية الجيش السوري الحر والإخوان المسلمين يتقاسم مسلّمات ما يُسمّى بـ»الدولة المدنية» وهو تلطيف خطابي للدولة العلمانية التي تتجاوز التحديدات الطائفية والمذهبية لمواطنيها. سادساً لا

يبدو أن الأقليات الدينية خارج ثنائية الشيعة والسنة تقبل أن الصراع هو مجرّد صراع بين مَذهبَين مُسلِمين ويبدو أنها ترى أن له تداعيات على النظام العِلماني والمواطني. لذا يبدو أن المسيحيين مثلاً (حيثُ في معركة حلب توجد الكنائس في حلب الغربية وتقع تحت مرمى نيران الثوار) كما الدروز ما زالوا غالباً في صفِّ النظام. إحدى النمطيات والسرديات الذائعة هي انتقال الجيش السوري الحر من جيش علماني إلى ميليشيات إسلامية لكننا نرى أن كثيراً من مقاتليه ما زالوا يحتفِظون بصورة مثالية لسوريا موحّدة تحت حكم يتجاوز الخصوصيات المذهبية لمكوِّناتِها. لذا أعتقِد أن سرديات الحرب الطائفية هي استراتيجية حرب ونمط تفكير كسول أكثر مما هي وصفٌ لتعقيدات الاصطفاف والاحتراب.

• ماذا عن تجربة المقاتلين السنيين في حلب، وما هو نموذج الحكم الذي أقاموه؟
هذا سؤال مهم. ونادراً ما يُنتبَهُ له. فبرغم أن معظم سكان حلب بقوا في حلب الغربية وليس في حلب الشرقية حيثُ يُسيطِر النظام إلاّ أن النظام السياسي في حلب أقام تجربة تستحقُّ النظر. وبطبيعة الحال فلا نمتلك المعطيات الكافية ولكنهم طردوا قوات مايسمى «الدولة الإسلامية» في 2014 وأنشأوا نظاما مدرسيا، وإن بقي سرياً بسبب استهداف قصف النظام له. واستطاعوا، على ضعف إمكانياتِهم، إقامة نظام للتنظيف والتخلّص من القمامة؛ كما أقاموا نظام ضمان اجتماعي وإنفاق اجتماعي إلى الأُسر الأكثر فقراً وحرماناً. ورغم تقويض النظام العدلي إلاّ أن المحاكم الشرعية التي أقامتها الجبهات القتالية ظلّت موضع احتكام واقتضاء من قبل أهالي حلب الشرقية.

• لماذا انتصر الأسد وخسرت المعارضة، رغم أنهم مدعومون من قبل السعودية وقطر وتركيا؟
عدّة عوامل: النيران الروسية، مع أن الحسم كان برياً وميليشاوياً. الخبرة الاستشارية الحربية الإيرانية. فشل الثوار في كسب المعركة الإعلامية. وفشلهم في الوصول إلى المناطق المدنية خارج أجزاء من حلب. تماسك حلفاء الأسد في مقابل تشرذم الثوار. لقد ظلّ عدد مقاتلي المعارضة يقترب من عدد مقاتلي النظام؛ ولكن الأخيرين استفادوا من وحدة قيادية أحزَم ومن مساعدة القوات الجوية الروسية والمروحيات التابعة للجيش السوري، والتي ترمي البراميل الحارقة دون كبير تمييز على المناطق المدنية. أما مقاتلو المعارضة فقد فرّقتهم خلافاتهم المذهبية والميدانية والأميرية وقد ظلّوا يتحاربون بينهم حتّى آخر لحظة. فمثلاً في مطلع نوفمبر الماضي وأثناء هجوم النظام على حلب الشرقية تحاربت كتائب «تجمع فاستقم» مع «حركة نور الدين زنكي» ما أدّى إلى سقوط عشرات القتلى فيما بينهما. وحدث نفس الشيء بين ميليشيا «فتح الشام» النصراوية وكتائب «راية الإسلام»، التابعة لفيلق الشام الإخواني غالباً. وظلّت هذه الاحترابات سارية حتّى هزيمة الطرفين أمام قوات الأسد.

• لو تقدمون لنا قراءتكم للمشهد الذي سيلي معركة حلب؟
يمكننا الحديث عن مسألتين هنا: الأولى معركة الإجلاء. والثانية ما بعد معركة حلب. باقتضاب تتعلّق معركة الإجلاء بطرد «الثوار» وارتباطاتِهم العائلية من حلب. ويُعتقَدُ أن هؤلاء يتراوحون ما بين 50000 إلى 100000. ويجب ألاّ ننسى أن مجموع سكان حلب الشرقية يصلون إلى حوالي 250000، ما يُحيل إلى إجلاء لما يتراوح بين خمس إلى ثلث السكان. في البداية صاغت روسيا وتركيا اتفاقاً للإجلاء إلاّ أن إيران سرعان ما أرادت إدماج بند جديد في الاتفاق يقضي بإجلاء الشيعة من المناطق التي يُسيطِرُ عليها “الثوار” في الأرياف، ما أدّى مؤقّتاً إلى تعطيل الهدنة واستئناف النظام لعمليات قصف المدنيين، قبل استئناف الاتفاق واستسلام حلب الشرقية عسكرياً.

الجميع يتحدّث عن الخطوة القادمة، المتمثِّلة برأيهم في مواصلة الأسد هجومه على المناطق التي يحتلُّها “الثوار”: وهي أغلب منطقة درعا في الجنوب وإدلب في الشمال الغربي، جنوب حلب وبعض مناطق ريف دمشق، هذا طبعاً عدى المنطقة الصحراوية الكبيرة التي تُسيطِرُ عليها “الدولة الإسلامية” والممتدة من دير الزور إلى الرقة ونواحي حلب في الشمال الغربي أو من دير الزور إلى تدمر في الوسط الجنوبي. يعتقد الجميع أن هذا سيكون أسهل في ظلِّ احتمال إسقاط الدّعم الأمريكي الذي وعدَ به ترامب (تصرف الولايات المتحدة حوالي نصف بليون دولار سنوياً في سوريا ولها فيها حوالي 300 مستشار ومقاتل) وسيكون أسهل في ظلِّ إغلاق المنافذ الحدودية، التي تمنع تزايد المحاربين السنة القادمين من الخارج. إلاّ أن الأمر قد لا يكون بسيطاً كما تُصوِّرُه هذه الروايات. فمن ناحية الجيش السوري وحلفاؤه منهكون؛ وقد لا يكون بإمكانِهم استئناف هجمات واسعة النطاق قبل الصيف. ثانياً يبدو أن هنالك استراتيجية للأسد لتأخير المواجهة مع “الدولة الإسلامية” حتّى إقصاء “النصرة” والجيش السوري الحر”. وفي هذه الأثناء تتقوّى مايسمى “الدولة

الإسلامية” حيث استطاعت استعادة تدمر في 11 ديسمبر الحالي وألحقت هزيمة ابتدائية بالجيش التركي في مدينة الباب بريف حلب. إلاّ أن هذا سيقوي “الدولة الإسلامية” ويجعل إزاحتها صعبة، كما هي في العراق. وقد تأخذ سنوات. لعلّ الخطوة القادمة أيضاً هي تحويل مانحي الثوار، من السعودية وقطر وتركيا، جهودهم من الجبهة الشمالية في حلب إلى جبهة جنوبية في درعا، غير أن هذا قد لا يلقى قبولاً من الأردن التي، وإن دعمت الثورة ضدّ الأسد، إلاّ أنها قد تخشى تداعيات عملية حربية كبيرة على حدودها كما حدث في تركيا ويُهدِّدُ بتدمير السلام الذي نعمت به تركيا في العقود الثلاثة الأخيرة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115