و للعرب بصفة عامة حيث امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت و عن استعمال الفيتو ضد القرار استجابة للضغوط التي مارستها عليها الدبلوماسية التونسية.
و قد جاء في حيثيات القرار المذكور أن مجلس الأمن: « 1 - يدين بقوة العدوان المسلح الذي اقترفته إسرائيل على الأراضي التونسية, في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة و القانون و قواعد السلوك الدوليين.
2 - يطالب أن تمتنع إسرائيل عن اقتراف أعمال عدوانية مماثلة أو التهديد باقترافها.
3 - يحث الدول الأعضاء على أن تتخذ تدابير لثني إسرائيل عن اللجوء إلى مثل هذه الأعمال ضد سيادة جميع الدول و سلامتها الإقليمية».
و رغم هذه الإدانة الواضحة و التعاطف الدولي مع الدولة التونسية إلا أن هذه الأخيرة اكتفت بهذا الانتصار السياسي و لم تستكمل المعركة لإحراج إسرائيل قانونيا و مطالبتها بتقديم اعتذار رسمي ودفع تعويضات للضحايا التونسيين.
لا يعرف إلى الحد الآن عن حقيقة السبب الذي دفع الزعيم الحبيب بورقيبة خلال السنتين الأخيرتين من حكمه( من سنة1985 الى غاية 1987) إلى الامتناع عن مطالبة إسرائيل بالتعويض القانوني عمّا سببته من خراب، و ذلك على الرغم من شجاعته المعروفة، و خبرته السابقة مع فرنسا في خوض المعارك السياسية الصعبة. و على الرغم كذلك مما عرف عنه من دهاء سياسي و انقضاض على الفرص و استغلالها متى سنحت إليه. ولكن ما يمكن ملاحظته أن سياسة الصمت عن المطالبة بحق تونس في الاعتذار و التعويض قد تواصلت مع الرئيس السابق بن علي و ذلك على الرغم من حجم الخسائر البشرية و المالية الهامة التي لحقت بتونس.( بلغ عدد القتلى 68 شهيدا و الجرحى 100 شخص من المدنيين في حين قدرت الخسائر المادية ب بـ 5.821.485 ديناراً تونسياً أي حوالي 8.5 ملايين دولار).
بعد أحداث ما يسمى بـ «الربيع العربي» لم يتغير الموقف التونسي بتاتا، بل تطورت سياسة الصمت المطبق إلى سياسة الخرس الكلي مع حكومات ما بعد الثورة والتي تتجنب الإشارة إلى هذا الموضوع من قريب أو بعيد, و هو ما يدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كانت الدولة التونسية في شخص ممثليها السياسيين المتعاقبين قد تخلت نهائيا عن مطالبة إسرائيل بالاعتذار الرسمي و التعويض عن ضحايا العدوان المسلح على حمام الشط؟
تجدر الإشارة في البداية إلى كون جميع الدول تحرص على فرض احترام سيادتها الوطنية و على أن تكون مهابة من طرف باقي الدول. و هي لذلك تتخذ جميع الإجراءات الكفيلة بتحقيق تلك الغاية سواء كانت قانونية أو سياسية أو دبلوماسية أو حتى عسكرية في بعض الأحيان. و من مظاهر تلك الهيبة عدم التفريط مطلقا في حقوقها أو حقوق مواطنيها في التعويض عن أضرار لحقتهم وقع ارتكابها من دول تتمتع هي أيضا بالسيادة الوطنية. و قد تعددت الأمثلة على ذلك في السنوات الأخيرة و صار الأمر شبه مألوف. فالولايات المتحدة أقرت مؤخرا قانونا يسمح بمقاضاة السعودية أمام المحاكم الأمريكية نتيجة مسؤوليتها عن أحداث 11 سبتمبر 2001. كما قامت في السابق باتهام نظام القذافي بإسقاط طائرة أمريكية و إرغام ليبيا على دفع تعويضات مالية فيما يعرف بقضية «لوكربي».
كما لدينا كذلك سابقة جرت مؤخرا تتمثل في الاعتذار الرسمي التركي لروسيا عن حادثة إسقاط الطائرة الحربية الروسية، و التي أنهت أزمة بين البلدين. و نفس الأمر طالبت به تركيا إسرائيل عن حادث الاعتداء على السفينة التركية «مرمرة», و هو ما قامت به إسرائيل على مراحل حيث قامت بالاعتذار الرسمي لتركيا بعد نشوب الأزمة ثم بعدها بسنوات قامت بالتعويض لعائلات الضحايا.
«إسرائيل» نفسها ظلت تطالب ألمانيا بالتعويض عن ضحايا الفترة النازية رغم مرور فترة زمنية طويلة, رافضة مبدأ سقوط الحق بالتقادم، في حين تخجل تونس من مجرد الهمس بفكرة الاعتذار رغم أن لديها سندا قانونيا قويا لذلك ورغم دعم القوى العظمى لها من خلال قرار مجلس الأمن عدد573 والذي جاء بفقرته الرابعة ما يلي: « 4 - يرى أن من حق تونس أن تحصل على تعويضات مناسبة عن الخسائر في الأرواح و الأضرار المادية التي لحقت بها و التي اعترفت إسرائيل عن مسؤوليتها عنها»
فهل يبقى بعد هذا القرار أي عذر للدولة التونسية؟
إن سياسة الصمت الخجول قد تشجع «إسرائيل» على التمادي في اعتداءاتها على السياسة الوطنية خاصة بعد أن ضمنت أنها لن تلاحق قضائيا، و قد اثبت التجربة ذلك من خلال عملية اغتيال القيادي أبو جهاد على الأراضي التونسية سنة 1988 و ليس بعملية قصف جوي
هذه المرة، بل بعملية إنزال قوات كومندس خاصة على التراب الوطني ضمت 26 عنصرا من بينهم رئيس الأركان السابق و وزير الشؤون الإستراتيجية موشي يعالون الذين قاموا بعملية التصفية.
و يمكن تسوية هذا الملف لو توفرت الإرادة السياسية بطريقتين: إما عن طريق اتفاق سياسي بين الطرفين يضمن الحق في الاعتذار و التعويض و ذلك على غرار حادثة السفينة التركية «مرمرة». أو عن طريق إصدار قانون يتيح مقاضاة «إسرائيل» و شخصيات إسرائيلية
أمام المحاكم التونسية, ثم الشروع لاحقا بعد المصادقة عليه من مجلس النواب، في الإجراءات القانونية و رفع الدعاوى مثلما فعلت الولايات المتحدة مع حليفها السابق و الغني جدا -لكن ليس إلى ما لا نهاية- المملكة العربية السعودية.
و رغم الصمت الرسمي التونسي عن تناول هذه القضية، طيلة سنوات الديكتاتورية, فقد تواصل هذا الصمت بأخفت منه بعد الثورة الديمقراطية في تونس, و امتنع أي مرشح رئاسي عن ذكر هذا الأمر أو المطالبة به في حملته الرئاسية,و ذلك على الرغم من حديثهم جميعا عن هيبة الدولة و السيادة الوطنية. بل امتنع كذلك برلمان الثورة ( المجلس التأسيسي) عن تجريم التطبيع في الدستور التونسي .
على المجتمع المدني أن يتحمل مسؤوليته ويدفع الدولة التونسية الى أن تطالب بحقها الذي يضمنه لها العرف الدولي و الدبلوماسي و القوانين الدولية والوطنية و ذلك من أجل تونس أولا و من أجل الأجيال القادمة ثانيا و حتى لا نؤسس إلى عرف يجري به العمل في تونس مفاده أن هذه الدولة تسكت عن حقها و عن حق أبنائها و لا تنتصر لهم. و الساكت عن الحق هو دولة خرساء.
بقلم: محمد درغام
حقوقي تونسي