باختلاف الناظر إلى الصورة، لكن أي كان بإمكانه ان يكتشف تناقضات وإكراهات تحدّد كيفية تحرك الفاعلين السياسين في الساحة وخياراتهم وانعكاساتها على أجسامهم الحزبية.
هناك مثال آني يعكس هذا. وهو ما جد بمجلس النواب وما كانت عليه الصورة الكبيرة لدى مناقشة تعديلات المرسوم 116 يوم امس، حيث كانت الصورة العامة انقساما في المجلس بين الاغلبية والمعارضة على مضمون التعديلات والموقف منها، هل تقع المصادقة عليها والذهاب الى صدام مع قطاعات في الشارع التونسي ام يقع التخلي عنها في اطار مناكفات سياسية.
خلف هذا المشهد العام المركب الذي يكشف عن كيفية تحرك الاغلبية البرلمانية وتشريع القوانين هناك مشاهد جزئية منفصلة تجتمع لتكون الصورة العامة، وهنا قد يكون التركيز على حيز الاغلبية البرلمانية الراهنة في الصورة العامة كعينة تكشف عن هذا التداخل بين الجزيئات لتقديم صورة نهائية. حيز نجد ضمنه ثلاثة اطراف سياسية وبرلمانية، هي حركة النهضة وكتلتها، وحزب قلب تونس وكتلته وكتلة ائتلاف الكرامة، الترويكا الجديدة التي تقف اليوم مدافعة عن خيار التنقيح وتروج اليه بما اوتيت من جهد وامكانيات.
دفاع تضمن بشكل غير صريح هوامش ومشاهد منفصلة، تكشف بالاساس عن مشهدين يقع الاقرار بهما بشكل مباشر في الكواليس وفي المحادثات غير الرسمية، المشهد الاول يتعلق بطبيعة العلاقة بين الترويكا الجديدة، اي بين كتلها وكيفية تحركها كاجسام منفصلة قبل ان تلتقى في جسم جامع يراد له ان يتاسس هو جسم الاغلبية البرلمانية.
تحركات تبين ان كتلتي قلب تونس وائتلاف الكرامة نزلتا بثقلهما لا لتمرير التنقيحات على المرسوم 116 بل لفرض نفسيهما كلاعبين اساسيين في الاغلبية لا كتابعين للنهضة وكتلتها يخضعان لقانون حركة الاجسام وتاثير الاجسام الكبيرة على الصغيرة والزامية التبعية والرضوخ لجاذبية الاجسام الاكبر. اي ان قلب تونس وائتلاف الكرامة تحركا ليشكلا مشهدا ثانويا في صورة عامة بهدف الاعلان عن انهما كيانان قائمان وفاعلان.
هذا الدافع والرغبة في فرض الحضور السياسي والتاثير يفسر ما قامت به قيادات هذه الكتل من ضغط وتاثير على كتلة النهضة ودفعها الى تبنى الدفاع عن المبادرة وتبنيها والخروج الى الراي العام للمحاججة على تمريرها واقناع الشارع بانها ليست لخدمة اطراف بعينها بل لخدمة الثورة والثوار عن دور لعبته حركة النهضة ورضخت للكتلتين وباتت تابعا لهما في هذا الملف بدل أن تكون القائدة للفعل السياسي والبرلماني، والسبب انها وجدت نفسها رهينة بيد ائتلاف الكرامة وقلب تونس، وللدقة وجدت الحركة نفسها مجبرة على دفع ثمن للتحالف الاغلبي، وهو اللعب بقواعد قلب تونس والكرامة وتمرير تنقيحات لا تجد النهضة حجة للدفاع عنها غير التسويق لثنائية الثورة والثورة المضادة، اي استحضار خطابها القديم تجاه الاعلام.
استنجاد بموروث معاداة لاعلام واعتباره رهينة بيد الثورة المضادة هو ما تقدمه النهضة كحجج لتغلف حقيقة المشهد وهي انها جعلت رئيسها وهو رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي، رهينة وورقة ضغط وتفاوض لتحديد المواقف والخيارات السياسية والبرلمانية.
فالنهضة التي تبنت تنقيحات حلفائها في حقيقة الامر تبنت خيار ضمان سلامة رئيسها رئيس مجلس النواب وعدم محاصرته من جديد وجعله عرضة للسهام، ان فضّ التحالف وفق تهديدات شركائها الذين خيروها بين تمرير قانون او الذهاب الى جعل رئيس البرلمان مكشوفا للمعارضة وسحب الدعم له من كتلتين ضمنتا له البقاء في المشهد البرلماني ولعب دور متقدم فيه.
ارتهان شكل جزء من المشهد قاد الى الصورة العامة، ولكنه -ايضا- كشف عن مشاهد فرعية عن الوضع صلب النهضة وكتلتها، التي عاشت على وقع انقسام حاد بين افرادها في علاقة بالتنقيحات والتصويت عليها. وهنا يبرز المشهد الثاني، وهو الانقسام الذي بات امرا واقعا في الحركة ولكنه بدوره قائم على تفاصيل وجزئيات.
هذه التفاصيل التي قادت الى ان يجد جزء من كتلة النهضة نفسه بين خيارات صعبة ومحددة، جزء كان معارضا للتنقيحات ورافضا للرضوخ لابتزاز الشركاء وضغطهم على الكتلة من اجل التصويت على تنقيحات مقابل ضمان سلامة موقع رئيس الحركة.
تعقيدات المشهد تكمن في ان غالبية النواب في كتلة النهضة المعارضين للتنقيحات هم من التيار المعارض لخيار تنقيح الفصل 31 من القانون الاساسي لحركة النهضة الذي يحدد عدد النيابات لرئيس الحركة باثنتين.
التداخل والتاثير هنا يكمن في ان هؤلاء المعارضين لتنقيح المرسوم 116 وجدوا انفسهم امام حتمية التصويت بنعم للتنقيحات لتجنب التداعيات الداخلية للتصويت بالرفض، اي انهم ولتجنب ان يقع استخدام تصويتهم بـ«لا» على التنقيحات ضدهم داخل حركة النهضة ومع قواعدها وهم على ابواب المؤتمر الـ11.
خيار مرده ان المعارضين للتنقيح والتمديد للشيخ يدركون ان سقوط القانون قد يمهد في وقت لاحق لاستهداف رئيس الحركة وجعله هدفا للدستوري الحر وللكتلة الديمقراطية من جديد، وهذا ان تم فسيعود بالحركة امتار للخلف، اي قبل الرسالة وكشف عن التباين بشأن التمديد لراشد الغنوشي.
عودة ستجعل الجسم النهضاوي مجبرا على ان يلتف خلف رئيسه وان يدعم بقاءه في المشهد لا لاقتناعهم به بل هم مكرهون لان الكيانات حينما تتعرض لحرب خارجية لا يمكنها ان تفتح جبهات داخلية تهدد وحدتها وتجعلها مهيئة للخسارة، لذلك سيصبح التمديد للشيخ صراعا بعنوان الحياة والموت، وفي مثل هذه الصراعات حتى اعتى المعارضين يقبلون بمسايرة الدعوات للوحدة الصماء والوقوف خلف الزعيم.