على النظر في الملفات المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كالتعذيب والاغتصاب والقتل العمد وغيرها،هذه الخطوة ولئن اعتبرت هامة في مسار الانتقال الديمقراطي الذي يشهد تعثرا منذ انطلاقه إلاّ أنها أثارت جدلا كبيرا على المستوى القانوني ومسألة محاكمة المتهم مرتين،جاء ذلك على خلفية إحالة هيئة الحقيقة والكرامة لملف شهداء وجرحى الثورة بلافيات على الدائرة المتخصصة بابتدائية تونس والمتهم فيه كلّ من وزير الداخلية الأسبق احمد فريعة وعدد من المسؤولين زمن الواقعة،هذه الإحالة أثارت حفيظة الكثيرين وتعدّدت بشأنها المواقف فهناك من رأى أنها عادية في ظل وضع استثنائي يتعلق بالعدالة الانتقالية في المقابل هناك من اعتبرها غير قانونية.هنا نجد أيضا الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب على الخط حيث أصدرت بيانا عبّرت فيه عن موقفها بشأن هذا المشهد.
الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية تم تركيزها منذ فيفري المنقضي وقد انطلقت في تلقي الملفات من طرف هيئة الحقيقة والكرامة في مارس 2018،وقد عقدت تلك الدوائر عديد الجلسات التي نظرت فيها في ملفات تتعلق بالانتهاكات الجسيمة على غرار ملف القتل والاختفاء القسري للضحية كمال المطماطي الذي أدلى فيه عبد الفتاح مورو بشهادته وصدح بحقيقة مدوّية وهي إخفاء الجثة في خرسانة إسمنتية بقنطرة شارع قرطاج .
«لا لإسقاط التتبعات»
وقائع الملفات التي أحيلت على الدوائر قد تم سرد اغلبها في الجلسات العلنية التي عقدتها هيئة الحقيقة والكرامة،عندها تغلّب أهالي الضحايا الذين قتلوا تحت التعذيب أو الضحية نفسه الذي شاءت الأقدار أن يبقى على قيد الحياة على أوجاعهم التي تعايشوا معها طيلة عقود وكسروا جدار الصمت للبوح بمشاهد الرعب والتعذيب المداهمات التي عاشوها داخل دهليز وزارة الداخلية وعن الأضرار التي خلّفتها تلك الممارسات الوحشية،هنا نتحدث فعلا عن انتهاكات جدّ جسيمة ومن الصعب إقناع الضحية أو عائلته بمسألة قانونية عنوانها «عدم محاكمة المتهم مرّتين»،في هذا السياق اعتبرت الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب في بيان لها التصريحات والتحرّكات المتواترة من جهات عدّة والتي تصبّ مجملها في الدّعوة إلى إنهاء مسار التتبّعات ضدّ المشتبه بهم في ارتكاب جرائم التعذيب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أمام الدّوائر القضائيّة المتخصّصة، من جهة وكذلك الدّعوات إلى تشريع الإفلات من العقاب لمن ثبت ارتكابهم جرائم تعذيب أمر غريب إذ تطرقت إلى أنّ الفصل 23 من الدّستور نصّ على أنّ الدّولة تحمي «كرامة الذات البشريّة وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنويّ والمادّي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم.» وقد اعتبر ذلك مبدأ أصليّا اختاره الشعب التونسي وضمّنه بمرجعه التشريعي الأعلى وألزم الجميع بتطبيقه، ممّا لا يجوز معه الدّعوة والتحريض على إسقاط التتبّعات على من نسبت لهم الانتهاكات والعمل على إجهاضها وضمان إفلاتهم من العقاب بوقف التتبّعات أمام الدّوائر القضائيّة المتخصّصة.
مخالف للاتفاقيات الدولية
من جهة أخرى تطرّقت الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب إلى المسألة في علاقة بالمعايير الدولية والمواثيق التي صادقت عليها تونس حيث بيّنت أنّ القرارات والتوصيات الأمميّة الموجّهة للجمهوريّة التونسيّة ولكلّ الدّول الأطراف المصادقة على اتفاقية مناهضة التعذيب والبروتكول الاختياري الملحق بها، تجمع كلّها على اعتبار العفو الخاص أو العام على المنسوب لهم الانتهاك في جرائم التعذيب ضربا من ضروب الإفلات من العقاب غير المتلائم مع تعهّدات الدّولة الطرف بموجب مصادقتها على الاتفاقيّة.هذا وقد نصّ الفصل 102 من الدّستور على أنّ «القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلويّة الدّستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحرّيات» وأنّ «القاضي مستقلّ لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون». كما نصّ الفصل 27 منه على أنّ «المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تُكفل له فيها جميع ضمانات الدّفاع في أطوار التتبّع والمحاكمة».هنا استنتجت الهيئة أن هذه الفصول واضحة وصريحة وتؤكّد بوضوح أنّ الفضاء الأصليّ لإثبات الحقوق وتبرئة المتهمين أو إدانتهم هو القضاء المستقلّ غير الخاضع لأيّ سلطان، ممّا يستوجب من جميع أطراف الدّعوى المثول أمامه والإذعان لقراراته وإجراءاته وعدم التدخل في سير أعماله بأيّ وجه يكون الغرض منه عدم احترام اختصاصه أو التفصّي من العقاب المنطوق به من قبله.هذا وقد دعت الهيئة كلّ المتدخلين في هذا الموضوع إلى الالتزام بالدّستور والتعهّدات الدّولية للجمهوريّة التونسيّة والقوانين النّافذة ذات الصّلة، واحترام حق ضحايا التعذيب وعائلاتهم والمجتمع ككلّ في معرفة الحقيقة كاملة حول انتهاكات حقوق الإنسان والمسّ من كرامة الذات البشريّة وحرمة الجسد، وإيقاف كلّ الحملات والدّعوات الرّامية إلى تعطيل عمل الدّوائر القضائيّة المتخصّصة، والتصدّي لكلّ محاولات الإفلات من العقاب باختلاف أشكالها ومبرّراتها.