لقد تحملت البلاد طيلة السنوات الست الماضية الاعتصامات والإضرابات والاحتجاجات بكل أنواعها وتعطل الإنتاج بل وتراجعه لأن المعطيات الأساسية للاقتصاد التونسي كانت مقبولة: تنوع في الآلة الإنتاجية وحيوية معقولة للقطاع الخاص وتداين تحت السيطرة وإدارة ذات خبرة وفاعلية...
ولقد خلنا بأن هذه العناصر ستتدعّم بفعل موجة التعاطف منقطعة النظير مع الثورة التونسية وأن القضاء على الحكم العائلي المافيوزي الاستبدادي سوف يحرر كل الطاقات الإيجابية في البلاد... ولكن ما حصل إلى حدّ الآن هو أن كل هذه العناصر الإيجابية السابقة عن الثورة واللاحقة بها قد تآكلت يوما بعد يوم حتى أصبحت سفينة تونس مهددة، فعلا لا قولا، بالتفكك والغرق...
لم يعد أحد يشكك اليوم في التوصيف ولكن لم نتفق بعد على الخطوات الأولى للإنقاذ.. من أين نبدأ؟ بالحدّ من نفقات الدولة وخاصة في كتلة الأجور المتنامية بصفة جنونية؟ أم نلاحق المتهربين جزئيا أو كليا من الضرائب ونجبرهم على دفع حق البلاد عليهم؟ أم نثقل كاهل دافعي الضرائب بضرائب جديدة؟ ثم ماذا نفعل مع هذا السيل العارم من الاحتجاجات؟ مجلس وزاري لكل جهة محتجة؟ حزمة كبيرة من القرارات يبقى جلها حبرا على ورق؟ وماذا عن قطاعات الصناعات المنكوبة؟ وعود على وعود؟ هذا دون الحديث عن المشهد السياسي العام الذي تغلب عليه صغائر الأمور والمعارك الخسيسة – حتى داخل الحزب الواحد – بدلا من التفكير في إيجاد الحلول وفي تأطير الناس وفي الإسهام في مناخ إيجابي لإنقاذ البلاد...
العقل يقول أن أولى الأولويات هي إنقاذ الدولة وتوازناتها الكبرى لأنه لو ترهلت الدولة لاستحال فيما بعد إنقاذ كل شيء...
ولكن تونس اليوم لا يحكمها العقل بل تتقاذفها الأهواء من كل جهة... وكأننا بكل جزء فيها يريد أن يأخذ نصيبه من «التركة» قبل فوات الأوان...
كيف السبيل للتوفيق بين ما يحتاجه العقل وما تطالب به الأهواء؟
نعلم جميعا أننا لن ننقذ تونس من الغرق إلا إذا ما تضافرت كل جهودنا وعملنا جميعا في نفس الاتجاه دون انتظار مغنم مباشر ونعلم جميعا أن الاستجابة لكل المطالب الاجتماعية والاقتصادية مهما كانت شرعيتها هي جريمة في حق البلاد لأننا نكون قد أعطينا ما لا نملك ورهنّا البلاد لدائنيها بلا عودة...
أولوية الأولويات اليوم هي وقف نزيف التداين وإلا لاستحال كل إنقاذ ممكن غدا...
نعلم جميعا أننا تجاوزنا سقف الخطر هذه السنة ببلوغ نسبة مديونيتنا 62,1 % في موفى هذه السنة ولكن لو تواصلت الأمور على نفس هذه الوتيرة فقد نتجاوز في موفى سنة 2017 نسبة 70 % وهذه ليست كارثة بل كارثة الكوارث...
تصوروا أنه للحفاظ على نفس مستوى المديونية للسنة القادمة ينبغي علينا أن نوفر قرابة 9 مليار دينار على مشروع الميزانية لسنة 2017 (نعم هكذا!) سواء بالاقتصاد في الإنفاق العمومي أو بزيادة موارد الدولة... والواضح أننا لن نتمكن بالمرة من هذا الهدف مهما بذلنا من جهد... ولكن كما يقول القدامى ما لا يُدرك كلّه لا يترك جلّه... إن الجهد الوطني ينبغي أن ينكب منذ الآن على الحد من التداين على امتداد السنوات القادمة حتى لا نرتهن حاضر ومستقبل تونس...
الحلّ الوحيد لا يكمن فقط في التحكّم في تضخّم كتلة الأجور بل في طرح كل عناصر الإنفاق العمومي على الطاولة وكذلك كل إمكانيات توفير موارد إضافية للدولة... وكل اقتصاد ممكن ينبغي أن تطرق أبوابه مهما كان صغيرا وكل باب إضافي للدخل لا بد من ولوجه كذلك...
وهذا إصلاح ضخم يستوجب شجاعة ومسؤولية كل الأطراف الاجتماعية الأساسية في البلاد...
في باب الإنفاق هنالك كتلة الأجور وعجز المنشآت العمومية وعجز الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية ونفقات الدعم... وهذه الأبواب مجتمعة تتجاوز لوحدها الموارد الذاتية للدولة ولا يمكن للأمر أن يستمر على هذا المنوال.. ونحن هنا أمام منظومات متكاملة ومتضامنة إن هلك بعضها هلكت كل المنظومات معا...
ينبغي أن تكون لدينا الشجاعة لمراجعة وضعية كل المنشآت العمومية التي بلغ مجموع عجزها حوالي 4 مليار دينار.. هنالك مؤسسات استراتيجية ينبغي إصلاحها حتى تقوم بدورها وأخرى بالإمكان التفويت فيها... المسألة ليست عقائدية بل تراعى فيها مصلحة الدولة وفاعلية الاقتصاد كذلك... قد نتفهم أن تكون شركات النقل البري للمسافرين خاسرة لأنها تقوم بأدوار اجتماعية هامة ولكن لا يمكن أن نفهم أن تكون شركة الخطوط الجوية خاسرة وهذا يستوجب إصلاحا هيكليا لكل مؤسساتنا العمومية الخاسرة واختيار المنشآت المشتغلة في القطاع التنافسي لخوصصتها.. وهذا سيسمح بالتخفيف من أعباء الدولة وبالتالي من اللجوء إلى التداين الخارجي..
وينبغي منذ الآن أن نتفق على إصلاح جذري للإدارة بدءا من الحد من تضخمها الكمي وذلك بإيصالها تدريجيا إلى حجم طبيعي ذي فاعلية وهذا يستوجب عدم تعويض كل المغادرين للتقاعد ثم إقرار مبدإ أن الموظف هو موظف لدى الدولة لا لدى وزارة بعينها بما يتيح الحركية بين الوزارات وبين الجهات حتى نتلافى النقص الحاصل في مصلحة ما دون اللجوء إلى الانتداب...
كما أننا تأخرنا كثيرا في إصلاح منظومة التقاعد وأنه آن الأوان لبداية إصلاح جدي على الأقل بالتمديد بسنتين أو أكثر في سن التقاعد...
ونعود إلى مسألة الدعم لنقول كذلك بأن شعار توجيه الدعم لمستحقيه لم يجد بعد طريقه الجدي للتنفيذ رغم الإصلاح الذي أدخل على احتساب أسعار المواد البترولية عند البيع...
كما أنه على الحكومة متابعة كل سبل إنفاقها والقضاء على كل إنفاق غير ضروري بدءا بالسيارات الإدارية وتجهيز المكاتب الإدارية والمهمات للخارج وبعض التمثيليات الاقتصادية التي يمكن الاستغناء عنها وتعويضها بمكتب داخل سفاراتنا بالخارج وفواتير الهاتف والكهرباء إلى غير ذلك من مقتضيات ترشيد إنفاق الدولة.
ولكن كل هذه الإصلاحات تبقى بلا معنى إن لم تعمل الحكومة بكل حزم ممكن على فرض دفع الضرائب على الجميع وعلى بداية إدماج فعلي لجزء من الاقتصاد الموازي في الدورة المنظمة ولقد أتينا على بعض هذه الآليات في مقال سابق «من أين لك هذا؟»
كما ينبغي أن نحارب بصفة جدية ومنظمة مافيات الفساد والتهريب لأن الإصلاح لا يمكن له أن يثمر في أرض ينخرها الفساد من كل جهة.
ما نخشاه هو أن تشغلنا القضايا اليومية، على أهميتها، عن معالجة جدية لهذه القضايا الهيكلية والأساسي هو تجنب غول المديونية المخيف مع المحافظة على حجم مرتفع للإنفاق العمومي.
المهم أن يبدأ الإصلاح الجدي أيّا كانت مداخله حتى لا تغرق سفينة تونس... وحينها لا ينفع العقار فيما أفسده الدهر.