وهذا يفضي إلى القول إنّ وجود شروط موضوعيّة يؤدي حتما إلى انبثاق حركات احتجاج تقودها شرائح اجتماعية من أجل المطالبة بأدنى الحقوق الطبيعية وهي حقّ الحياة الكريمة.
غير أنّ المتأمّل في الأحداث على اختلافها وتنوعها في الزمان والمكان والفاعلين الذين يقفون وراءها يتبيّن تعدّد الفهوم واتساع دلالات التهميش. فهو لدى البعض حرمان من فرص العمل، وهو لدى البعض الآخر فشل في تحقيق السعادة ،وهو في اعتقاد البعض عسر تحقق الاعتراف الاجتماعي وهو في نظر البعض الآخر عدم الارتقاء إلى وضع اجتماعي مناسب إلى غير ذلك من الدلالات التي تضيق أو تتسع وفق تمثّل الفرد لمفهوم التهميش وكذلك حسب الحالة النفسية التي يمرّ بها.وهذا التشويش الاصطلاحي يدفعنا إلى طرح أسئلة أساسية: ما التهميش؟ ما هي تجلياته؟ ومن هو المهمّش؟
إنّ هذه الأسئلة أساسية لمن يروم وضع السياسات الملائمة للحدّ من ظاهرة استفحلت وما عاد بالإمكان التعامل معها دون سند علميّ. فإذا صوّبنا وجوهنا باتجاه الغرب تبيّن لنا أن الدراسات في مجال سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية ودراسات التهميش وغيرها توفّر بعض النظريات وأدوات التحليل التي تساعد على توصيف الظاهرة ثم إيجاد الحلول الملائمة لها. وفي المقابل نجد أنّ اللبس ماثل في أذهان أغلب المنتمين إلى العالم العربي بين الحركات الاحتجاجية(العفوية وغير المنضبطة) والتحرّكات النقابية(الفعل النقابي المنظم)، الحركات الاحتجاجية المشروعة(المطالبة بالماء ، التيار الكهربائي، الخدمات الصحية...) والمطلبية المجحفة (العطالة الاختيارية ورفض فرص العمل المتاحة بدعوى تحصيل الشهادات العليا...)، الحركات الاحتجاجية ذات البعد الاجتماعي التي تروم تغيير الواقع المتأزم والحركات الاحتجاجية ذات البعد السياسي /الأيديولوجي المرتبطة بأحزاب المعارضة.
لا يتوقّف عسر التعامل مع هذه الحركات الاحتجاجية عند اللبس الذي يحيط بها بل إنّ للأمر صلة ببنية علائقية متصدعة بين الأجيال : الآباء الذين تربوا على قيم معيّنة والأبناء الذين يحملون تصوّرا مختلفا عن الحياة ولهم قيم أخرى يؤمنون بها، وهناك فجوة بين من يعتبرون أنفسهم مهمشين ويقودون التحركات وبين الفئات المهمشة «الصامتة» التي تستمر في الكدح والمكابدة غير مبالية بالاحتجاجات...وهناك أزمة بين من يرون أنفسهم مؤهلين للحديث نيابة عن كلّ المعذّبين في الأرض ‘فيصعّدون’ المواقف ويرفضون التفاوض ويهدّدون ومن يُكلّفون بمهمّة تمثيل الدولة والذين لا يملكون سوى التعهّد وتقديم الوعود أو الانخراط في ردود الفعل العاطفية.
وطالما أنّنا لا نخضع الظاهرة للتمحيص فنحدد هوية الفاعلين ونصنفهم وفق الجنس والسنّ ومستوياتهم التعليمية والانتماءات المختلفة ونرتب مطالبهم وندرس مدى معقوليتها وابتعادها عن التلاعب السياسي أو التوظيف الأيديولوجي فإنّنا سنكتفي بتقديم بعض المسكنات التي سرعان ما ينتهي مفعولها. وطالما أنّ المجتمع المدني لا ينهض بدور الوساطة الجدية بين المنخرطين في الحركات الاجتماعية والدولة ولا يقدم الحلول الملائمة فإنه لا مجال لتحقيق السلم الاجتماعية.
ومادامت التعبيرات الاحتجاجية لم تتحول إلى مادة للدرس في جامعاتنا ومنتدياتنا الفكرية ودور الثقافة فإنّنا سنظل مستمرين في التأويل والقراءات السطحية ومادامت أشكال الاحتجاج وأنواعه (الاحتجاجات العنيفة ، الاحتجاجات الزوبعة Mouvement-tourbillon ...)لم تتحول إلى موضوع للنقاش الجدي والمعمق في وسائل الإعلام فإنّ العمى الإدراكي متواصل.
ليس فض الاحتجاجات عملية قائمة على التطويع والترويض والتهذيب...بل هو إعادة نظر في أشكال التواصل مع المهمشين الحقيقيين وفي طرق دراسة الظاهرة بأدوات تحليل جديدة ..إنّه العلم بالظواهر لا الحكم المتسرّع على الأفعال.