و لكن لم تشهد البلاد إلى حد الآن وقفة حازمة للحد من إتساع التعنت حتى لا نقول «العصيان» ، الّذي أخذ عدّة أشكال إلى أن أصبح ظاهر خطيرة تهدّد كل المؤسّسات القانونية و تقلّل من شأن دولة القانون والمؤسّسات وهو شيء مفزع لأنه يؤدّي إلى إنعدام الثقة وطنيا و دوليا في المصالح والمرافق والسلطات العمومية.
و المؤسف أن الأمر لم يعد متوقّفا على تعنت الأفراد بتوصلهم بوسائل خاصّة مبنيّة على الفساد، إلى التهرب و الإفلات من العقاب في صور كانت تبدو محدودة و شاذّة ،بل أصبحنا نشهد مواقف متعنّتة لشخصيات سياسية و تشكيلات حزبية و جمعيات ومنظمات وأيضا مؤسّسات ذات سلطة عامّة تضع نفسها فوق القانون ، لذلك ترفض الإذعان إلى الأحكام القضائية و ترفض التقيّد بالتراتيت و أحكام القانون.
هذا الإستقواء على مؤسّسات الدولة شجّع على إتساع رقعة التعنّت إلى أن تحوّل إلى ظاهرة تتجلّى في كل مرّة في شكل جديد. و ما ساعد على استفحال الظاهرة توسّع إمكانيات التأويل والتفسير بسبب سن قوانين متسرّعة أو «توافقية» لإرضاء جميع الماسكين بالسلطة أو المشاركين فيها ،و أحيانا عند الطلب أو لسدّ فراغات بصفة عاجلة .
لذلك أصبح الخروج عن أحكام الدستور أحيانا أمرا متاحا بل وصل تأويل النصوص الّذي يتمّ أحيانا عند الطلب في الجلسة العامّة لمجلس النواب وذلك «بإستفتاء» أو إستشارة السيد الحبيب خذر «النّائب المؤسّس» ،في أمر ما و العمل برأيه دون أي تحفظ. لذلك سمعنا أكثر من نائب ينسب لنفسه مهمّة التأسيس للتدليل على وجاهة رأيه ومواقفه .
لذلك لا شيء يدعو للإستغراب عندما يعمد طالبو الشغل أو طالبو الالتحاق بمهنة المحاماة أو الراغبين في فرض حقهم في الإلتحاق بكليات الطب، أو طالبي نسب معينة من إنتاج الفسفاط ،أو الدّاعين إلى فرض فتح الإنتداب بالوظيفة العمومية ، أو الرافضين لمحاسبة زميل لهم أو لفرد من الأفراد ، إلى اعتماد الاعتصامات أو اقتحام المقرات أو منع العمل ،أو وقف الإمدادات و قطع الطرق ، و على غيرها من وسائل الضغط والمساومة لفرض الأمر الواقع أو لحمل السلط العامة على الاذعان.
فإذا كانت قوانين مثل قانون الاحزاب والجمعيات و العدالة الإنتقالية والحقيقة والكرامة و الهيئات المؤقتة للقضاء العدلي وغيرها ، حبرا على ورق ، ماذا يمكن أن ننتظر من مواطنين و مجموعات مهنية أو قطاعية وجهوية في تعاملها مع مؤسّسات الدولة ؟
لقد تحوّلت جمعيات و تشكيلات خيرية ودعوية و إجتماعية وقانونية وثقافية وحاملة لرايات الدّفاع عن قيم عامّة مشتركة ، إلى أحزاب سياسية فعلية وفاعلة فتجمع الأموال و تتلقّى الدعم الدّاخلي وأحيانا الخارجي ، لتأمين أنشطتها ، دون رقيب أو محاسبة . بل تحوّل بعضها من مجموعات ضاغطة في تصنفيها القانوني ، إلى مجموعات احتياطية لأحزاب سياسية تُسيَرُ بتوجهات جهات سياسية فاعلة.
وفي نفس الوقت تحوّلت مجموعات ، أحيانا عائلية ، إلى أحزاب سياسية لا نشاط لها و لا هياكل فعلية لها و لا برامج تنشط على هديها، إلى أحزاب سياسية ، تتقاسم الشعارات والتوجهات مع تشكيلات سبقتها في التكوين ، إلى أن أصبح لتونس 205 أحزاب أغلبها تنهل من نفس المرجعيات ، دون أن نعرف لها مقرّا أو مستقرا أو عملا أو «ناقة أو جمل» في حقل السياسة الشفّافة.
كل هذا يحدث بالرغم من أن الدستور و القوانين الجديدة تغرق في استعراض التفاصيل و تفسير.....