لعدم إمكانية استحمامهم في هذا البلد المضياف ذي التقاليد السياحية العريقة وكم من مزرعة انقطع تزويدها بمياه الري خلال الأشهر القليلة الماضية.
كانت الاجابات في البداية متململة مبرّرة الانقطاعات بأعطاب غير منتظرة على شبكة التوزيع تستدعي تدخلات غير مبرمجة إلا أن تكرارها جعل المسؤولين على القطاع يشرحون لنا بأن السبب الرئيسي يعود إلى الجفاف الذي تعيشه تونس منذ أشهر وأنه إن تواصل ذلك فإن كارثة تترصدنا وأن تونس مهددة بالعطش وأن الحل الوحيد هو ان نتّجه الى تحلية مياه البحر.
• كيف يمكن للعاقل أن يقبل هذه الاجابات وان يكتفي بها وهي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ليس بالجديد علينا أنّ تونس بلد شبه صحراوي يكاد يكون الجفاف فيه هو القاعدة والسنوات الممطرة الاستثناء وتثبت الإحصائيات أن دورة المناخ في تونس تتكون من سنوات ممطرة تليها سنوات جافة تمتد عادة من 2 الى 5 سنوات متتالية وما نحن اليوم إلا في بداية السنة الاولى من الفترة الجافّة. فالسؤال هنا كيف لم نتأقلم منذ عشرات السنين مع هذا الوضع خاصة وان التغيرات المعلنة للمناخ تنذر بتأزم الحالة خلال العشريات القادمة؟
بعيد الاستقلال وبالتحديد في سنة 1960 كان كل تونسي يتمتع بقرابة 1025 متر مكعب من الماء الصالح للشراب سنويا وبالرغم من سياسات رائدة لتعبئة المياه المتاحة وطنيا مكّنت من رفع المتاح الاجمالي للماء الصالح للشراب ب 50 % على مدى الخمسين سنة المنقضية، تناقص نصيب كل تونسي حتى ينزل حاليا الى ما لا يفوق 460 مترا مكعبا سنويا، علما وأنّ المنظمات الدولية اعتادت ان تصنف البلدان التي يكون المتاح لسكانها دون 500 متر مكعب سنويا كبلدان خاضعة «للضغط المائي»، أي أنها ليست بمنأى عن العطش وهذا هو وضع تونس منذ ما يفوق عشر سنوات.
لقد تمكنت تونس منذ الاستقلال الى اليوم من تعبئة ما لا يقل عن 97 % من مواردها المائية السطحية و هذا يعنى أن إمكانيات التعبئة الإضافية باتت هزيلة من الناحية الكمّيّة إن لم نقل منعدمة اذ أنّ تكلفة ما تبقى هامشيا جدّ مرتفعة لا تتماشى مع اقتصاديات استعمالاتها.
و أمام هذا الوضع المتأزم توجهت الاستراتيجية الموضوعة للقطاع نحو تعبئة موارد اضافية تقليدية كانت كبناء سدود هامشية جديدة أو الرفع من طاقة استيعاب السدود الحالية أو استغلال مياه الطبقة العميقة في الجنوب التونسي أو غير تقليدية كتحلية المياه المالحة ومياه البحر.
وللأسف الشديد فإن هذا الاتجاه خاطئ و خطير لعديد الأسباب :
- إنّ بناء سدود جديدة أو الزيادة من ارتفاع السدود الحالية للرفع من طاقة استيعابها أو الربط بينها أو نقل المياه برّا على مسافات طويلة اتجاه مكلف وغير مجد ويتسم بمردودية اقتصادية ضعيفة وأحسن دليل على ذلك أنّ طاقة الاستيعاب الإضافية المنجزة خلال الفترة ما بين 2010 و 2015 وان بلغت 90 مليون متر مكعب إضافي فإنها لم تكن كافية لتغطي الماء الضائع عبر شبكات التوزيع التابعة للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه التي ارتفعت في نهاية هذه الفترة الى 147 مليون متر مكعب والخطير هنا ان حجم الماء الضائع تضاعف ثلاث مرات ما بين الفترتين 2002 - 2010..! و 2010 - 2015.
- تحتاج تقنيات تحلية المياه وخاصة منها مياه البحر إلى كمّيّات هامّة من الطّاقة و كلّنا نعلم أن تونس سائرة بخطى حثيثة نحو عجز متفاقم في هذا الميدان (وستكون لنا عودة إلى هذا الموضوع الخطير). إنّ معظم البلدان التي عمدت إلى تحلية مياه البحر هي بلدان منتجة للمحروقات بأسعار زهيدة وعادة ما تستعمل لمصانع التحلية الغاز الطبيعي المنتج عرضا عند استغلال حقول النفط وبذلك تكون قيمته السوقية قريبة من الصفر.
- تفضي تقنيات التحلية الى تكلفة عالية بما يناهز الثلاثة دنانير عن المتر المكعب للماء الصالح للشراب أي ما يقارب ثلاث الى أربع مرات معدل تكلفة انتاج الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه حاليا ومن البديهي طرح سؤال هنا: من سيدفع الفارق؟
- وأخيرا وليس آخرا تفضي تحلية مياه البحر الى انتاج كميات هائلة من الملح، في حدود 37 كيلوغرام تقريبا عن كل متر مكعب أي أنّ محطة «ضعيفة الطاقة» بـ 50.000 متر مكعب من الماء يوميا ستنتج ما لا يقل عن 700.000 طن من الملح المخلوط بالعديد من المواد الكيمياوية سنويا. والسؤال البديهي هنا: هو ما مآل هذا الملح و ما تأثيره على البيئة من التربة والطبقة المائية السطحية إذا ما خزّن على وجه الارض وعلى النباتات والحيوانات المائية اذا ما تم التخلص منه بحرا؟
أما عن اللجوء إلى استغلال الطبقة المائية العميقة بالجنوب التونسي فيجب العلم أن هذا الخزان المائي غير متجدد، ورثناه عن أجيال متتالية وقد لا نتركه للأجيال القادمة وبذلك نكون أنانيين قاطعين مع مبدإ التضامن بين الأجيال.
تعكس الاضطرابات التي تعيشها تونس في ميدان توزيع الماء الصالح للشراب منذ أشهر على الأقل معضلات ثلاثا ورثناها منذ مدة طويلة: أولها التركيز منذ 2011 على إدارة القطاع على المدى القصير حيث تقلصت الاستثمارات و تراجعت أعمال الصيانة الكبرى وهما وحدهما كفيلتان بضمان استدامة المرفق العام وثانيتها ضعف الرؤية الاستراتيجية والتخطيط على المدى الطويل و ثالث المعضلات وهي اخطرها تلاشي الكفاءة المؤسساتية لإدارة القطاع وضعف حوكمته.
انّ الحلّ الوحيد لهذه المعادلة الصعبة يكمن في القطع مع سياسات الماضي المركزة أساسا على تعبئة موارد إضافية وإعتماد سياسات جديدة متعددة الملامح، أساسها :
- إعادة النظر في حوكمة القطاع إذ تتعدد اليوم الهياكل ويكثر المتدخلون أفقيا وعموديا دون جدوى ولا تنسيق و يبقى تدخلهم اداريا خاضعا للسلطة السياسية تعوزه المعطيات العلمية والبيانات الميدانية،
- الرفع من الكفاءة التسييرية لإدارة الموارد من التعبئة الى التوزيع مرارا بالاستغلال والتخزين. يجب علينا اليوم التحكم فى كميات المياه الضائعة بين السد والمستهلك فهي ما فتئت تتفاقم على مدى السنوات الاخيرة،
- تحسين معرفتنا للموارد في مختلف مراحل استغلالها مع الرجوع الى ما عهدناه الى نهاية الثمانينات من استمارات ميدانية لاستعمال الماء والتأكد من احترام طاقة الطبقات الجوفية واستدامة استغلالها،
- إعطاء الاولوية للتحكم في الطلب عوضا عن الترفيع في العرض ويكون ذلك لا سيما بترشيد الاستهلاك خاصة منه في القطاع الفلاحي وهو الذي يستهلك وحده ما لا يقل عن 80 % من الموارد المتاحة بينما لا تتعدى مساهمته 12 % من الناتج الداخلي الخام والأمثلة متعددة لنجاحات بلدان مشابهة لنا بيئيا في هذا الميدان،
- تثمين استعمالاتنا للماء وتوظيف هذا المورد النادر أحسن توظيف. لن يمكننا مستقبلا ان نواصل انتاج مواد فلاحية تستهلك الماء بكثافة دون ان يُدفع ثمنها الحقيقي ثم تستهلك أو تصدّر بأسعار لا تأخذ بعين الاعتبار دعم المجموعة لما استهلكته من ماء وهذا يتعلق بمنتجات مثل الطماطم او التمر او القوارص او غيرها، بل يجب علينا توجيه إنتاجنا الزراعي نحو منتجات ذات قيمة مضافة عالية، كما يجب علينا توعية المستهلك التونسي حتى نجعله يقطع مع نمط استهلاكي مستورد ثقافيا، يعتمد على منتجات حديثة العهد مع ثقافتنا.
- الرفع من مستوى تعبئة الموارد غير التقليدية وخاصة منها المياه المكررة عن طريق محطات الديوان الوطني للتطهير مع العلم أنّ نسبة اعادة استعمال المياه المستعملة لا تتعدى اليوم 15 % وهنا وجب الرفع من كفاءة محطات التطهير وتوعية الفلاحين وإرشادهم حول طرق استعمال هذه المياه ونوعية المنتوجات الزراعية القابلة لها.
إن ميدان الماء يحتاج الى وضع خطط على المدى الطويل يكون بمنأى عن التذبذبات السياسية وتغيرات الحكومات المتتالية و يجب أن تكون هذه الخطط متعددة الملامح: فنية، مؤسساتية، قانونية، ثقافية ومالية ويستوجب وضع هذه الخطط حيّز التنفيذ الاعتماد على إدارة كفأة تتمتع بنظرة واضحة و طاقات بشرية في مستوى هذه الرهانات تكون قادرة على أخذ القرارات والتدابير اللازمة.
طالما لم نهتد الى هذه التوجهات فإنّ أخشى ما نخشاه أن لا يكون ما نعيشه اليوم إلاّ طلائع مستقبل مائي حالك.
ولكن هل من آذان تصغي والاهتمامات مركزة اليوم أساسا على ما يدعى الشأن السياسي؟
بقلم الراضي المؤدب