لا نتحدّث هنا عن حق الأمنيين في المطالبة بما يعتبرونه حقوقهم المادية والأدبية وذلك أيّا كانت معقولية هذه المطالب، فذلك يندرج ضمن الحوار الاجتماعي المضمون دستوريا وقانونيا والأمني مواطن كغيره في هذا المجال..
ولكن ما لا يمكن أن نصمت عليه هو تهديد الدولة، في صورة عدم استجابتها لمطالب نقابة بعينها، بما يشبه العصيان الإداري: رفض حماية جملة من النشاطات الرياضية والثقافية ورفض تطبيق أوامر مخصوصة وخاصة تعطيل انسيابية الحركة المرورية بمعابر الحدود البرية وهذه المقايضة / العصيان هي ما لا يمكن قبوله بأي شكل من الأشكال ونحن هنا لا نتحدث عن شعارات منفلتة وصلت إلى حد الشتم أو رفع شعار «ديقاج» رئيس الحكومة ولا إلى محاولة اقتحام الجدار الأمني لحماية مقرات رئاسة الحكومة... نحن نتحدث عن «مطالب» وردت بلوائح رسمية للنقابة الوطنية للأمن الداخلي.
الغريب كل الغرابة هو أن يقوم جزء من المنظومة الأمنية المسؤولة على فرض النظام بالتهديد بخرق نواميس الدولة وبالتطنّع عليها.. فكيف سنحاسب إذن الأفراد والجماعات التي تريد، هي الأخرى، الخروج على القانون وفرض أمر واقع بالقوة لا نتيجة لحوار ضمن المؤسسات؟!
كيف يمكن أن نقبل أن يهدد أمنيون، ولو مجرد تهديد، بعدم تأمين الجلسات بالمحاكم لمدة ساعتين وبمقاطعة رفع المخالفات وتحرير المحاضر الجبائية وعدم تأمين نقل المواد المتفجرة ومقاطعة العمل الإداري.. إن هذا لا يمكن أن يوصف إلا بشكل من أشكال التمرد على الدولة.. فهل يمكن أن نتفهم أن تتحوّل مطالب اجتماعية ومهنية إلى مثل هذا؟!
لا يناقش عاقل واحد في حق الأمنيين في الانتظام في نقابات تدافع عن حقوقهم المادية والمعنوية، ولا نجادل أيضا في الدور الإيجابي للغاية التي لعبته كل النقابات الأمنية في تعافي المؤسسة الأمنية وفي استقلالها الفعلي عن الأحزاب السياسية التي أرادت تطويعها، كما لعبت هذه النقابات دورا أساسيا في لفت نظر التونسيين إلى الخطر الإرهابي التكفيري وهو في بواكيره الأولى.. ولكن أن يتحول جزء من هذا النضال المشرق إلى تهديد بما يشبه التمرد فذلك ما لا يمكن قبوله بأي شكل من الأشكال..
لا نريد أن ندخل في خانة موضوع المفاوضات الاجتماعية في قطاع الأمن ولا أن نحكم على المجهود الإضافي الذي بذلته الدولة.. فالقضية لا علاقة لها البتة بكمّ الأموال بل نحن أمام لحظة مفصلية تؤشر، للأسف، على الحالة الموضوعية للضعف النسبي للدولة التونسية..
يوم أمس أدركنا بمرارة الوضع الكارثي لمؤسسات الدولة ونحن لا نحمّل المسؤولية لأحد.. لا لهذه الحكومة ولا لمن سبقها.. إنه نتيجة موجة الحرية العاتية التي أضعفت الأسس الرمزية للدولة..
سلطة الدولة اليوم على المحك وهي إن خضعت هذه المرة – أيّا كانت الاعتبارات – فلن تستطيع مطلقا فرض سلطان القانون على بقية فئات المجتمع..
وهكذا مرة أخرى تأخذنا مجموعات الضغط القوية والتي قد تنسينا المشكلة الاجتماعية الأولى لتونس: التهميش والبطالة والفقر.. كل فئة تسعى لافتكاك ما أمكن لها مستفيدة في ذلك من الضعف النسبي للدولة.. ثم يُثقل كاهل الدولة فتعجز على أن تستجيب، ولو جزئيا، للمعضلة الاجتماعية الأولى تونسيا...
قد يعتقد بعض الأمنيين أنه ما ضاع حق وراءه طالب.. ولكن وكما يقول الفرنجة جهنّم مليئة بالنوايا الحسنة...