والمدنية والتي من بينها حرية الصحافة والإعلام التي يكشف واقعها اليوم عن تناقض صارخ بين خطاب السلطة وممارسته وعن تعامل مصلحي من قبل شرائح واسعة من التونسيين مع حرية التعبير كقيمة. فالسلطة تتمسك في خطابها الرسمي منذ 25 جويلية 2021 بأنه لا مساس بالحريات العامة والفردية، وقدمت نفسها كضامنة لهذه الحريات ومدافعة عنها واعتبرت ان الخطاب كاف لتاكيد التزامها بها ، بل وقدمت الفصل 37 من دستور 2022 على انه برهانها على ضد من ينتقد سياساتها العمومية في مجال الإعلام أو ينبّه من خطورة الخيارات المتبعة من قبلها. ذات الخطاب قدّمته السلطة اثر ايقاف المدير العام لـ"إذاعة موزاييك" نور الدين بوطار في فيفري الفارط، واعتبرت انها ملتزمة بحماية حرية التعبير والصحافة بل وقدمت على لسان الرئيس في16 فيفري 2023 في لقائه برئيسة الحكومة نجلاء بودن جملة من الحجج للدافع عن نفسها من تهمة التضييق على حرية الإعلام والتعبير من بينها أن السلطة لم تحجب صحيفة كما لم تمنع أي برنامج ولم تقع ملاحقة أي صحفي من اجل عمل يتعلق بالصحافة. يومها قال الرئيس أيضا "إن من يتباكى على حرية التعبير، ليست لديه حرية التفكير، بل هو مأجور من قبل بعض القوى التي لا تزال تعمل في الظلام". هنا نحن امام خطاب سياسي ما فتئ يؤكد على التزامه بالحريات ومنها حرية التعبير ويحاجج من ينتقد سياساته في هذا الشأن بأنه لم يصدر عنه ما يهدّد هذه المكتسبات، لكن الممارسة تفند الخطاب الرسمي، اذ تتم اليوم ملاحقة 3 صحفيين وفق المرسوم 54 على خلفية عملهم الصحفي. وهم منية العرفاوي ونزار بهلول ومحمد بوغلاب. كما تفندها رواية فريق الدفاع عن نور الدين بوطار الذي كشف عن أن التحقيقات معه تعلقت بالأساس بالخط التحريري للإذاعة. كل هذا يحدث في ظل مناخات عامة شكلها خطاب رسمي قائم على تخوين كل صوت معارض أو منتقد للسلطة وخياراتها، افرز في النهاية مناخا من الخوف ما فك ينتشر جنبا الى جنب مع خطاب التخوين والتشكيك في الرأي المخالف. مناخ هيمن عليه مزاج عام معاد للإعلام وللحريات برمتها اذ يتبنى جزء من التونسيين مقولات السلطة التي جعلت من النخب ووسائل الإعلام شماعة لتعليق إية كبوة او فشل في ادارة البلاد، لا فقط بعد 25 جويلية لان الأمر كذلك من قبل. لكن مسار الـ25 جويلية ذهب أشواطا ابعد في التضييق على الإعلام واستهدافه، وهذا كان جليا في الخيارات في ملف الاعلام المصادر وفي وفي خطابها الرسمي الذي أعاد تحديد مفهوم الإعلام العمومي بأنه إعلام حكومي وظيفته ان يكون قناة نقل للخطاب الرسمي فقط دون اية معالجة صحفية له، وهو ما جسده الرئيس في مقاطعته لوسائل الإعلام واقتصاره على إنتاج مادته الإعلامية/الدعائية وتقديمها لاحقا لوسائل الإعلام. البحث عن التحكم في الصورة وفي مضمون المادة الإعلامية وفي الحد من دور الصحفيين في إنتاج مواد صحفية تقدم للجمهور وتوفر لهم معطيات كاملة لفهم الحدث وبناء موقف منه، هو الخيار الذي تتقاسمه اليوم كل منظومة الحكم، من رئاسة الجمهورية والحكومة وأعضائها وأخيرا مجلس النواب، الذي منع دخول صحفي وسائل الإعلام الخاصة والأجنبية من تغطية جلستيه العامتين الاولتين. هذا مهم لفهم الدوافع الكامنة وراء السياسات العمومية التي تتبع اليوم وتقوم على ضرب حق النفاذ الى المعلومة وحجبها المتعمد في الكثير من الأحيان عن الصحفيين مقابل توفيرها في المنصات الاجتماعية او عبر بدائل تعتبرها سلطة 25 جويلية أدواتها الاتصالية لنقل خطابها لجمهورها مباشرة. ولا تقتصر التهديدات المحدقة بحرية التعبير والصحافة فقط على السلطة او على أنصارها او الباحثين عن التقرب منها بل تصدر عن شرائح واسعة من التونسيين لا تؤمن بحرية التعبير والصحافة الا متى كانت منسجمة مع مصالحها ورهاناتها التي تحدد موقفها من الإعلام ومن حرية التعبير وفقها