أمّا الدلالة الثانية للعقاب الذي حُدد لكل متحرش بامرأة فهي اجتماعية بامتياز.فبالاطلاع على ردود الفعل ندرك ملامح المجتمع التونسي الذي ما عاد بالإمكان الزعم أنّه «مجتمع معلمن بفضل السياسة البورقيبية أو الادعاء أنّه «مجتمع يعاني من التصحر الديني» غاية ما يمكن استنتاجه أن المجتمع التونسي بات أكثر محافظة من السابق بل أكثر «تفعيلا» لميكانزمات البطريكية.
وتوفر لنا التعليقات الفايسبوكية على هذا القانون سواء كانت ساخرة أو متشنجة، فرصة للوقوف عند مجموعة من الملاحظات منها :
-من المفارقات العجيبة أنّ هذا القانون تحول إلى قادح لممارسة أشكال من العنف اللفظي والمادي والرمزي والناعم فارتفعت أصوات الشاتمين والمُعيّرين والمشوهين لسير النساء ولعلّ سعيدة قراش أول ضحية لهذا العنف لأسباب عدة .
- استشراء ممارسات تؤكد كره النساء وهي ممارسات تنسب إلى الجنسين معا. فمن النساء من تلعن من منح النساء الحرية، ومنهن من تشتم من أصدر هذا القانون، ومنهن من تدعو إلى «البيتوتية› حتى تحافظ ‹الأخوات على عفتهن›...ومن الرجال من يعلن غضبه على «زريعة ابليس» وعلى القوانين التي تكرس الانحلال وتحد من مكانة الرجل.
-هيمنة الأيديولوجيا على المواقف فالبعض يعتبر أنّ النهضة تقف وراء هذا المشروع فهي تخرج الرقابة المفروضة على النساء في ثوب حداثي يدعي الانتصار لحقوق النساء ولكنه في الواقع يؤلب الرجال ضد «المحميات بالقانون» فيلجؤون إلى الدين وممارسة الدعوة من أجل تحصين الذات. وفي المقابل نجد من يعتبر أنّ هذا القانون يشجع على التبرج والانحلال ومحاربة الدين... سنّه العلمانيون ليسيطروا على الإسلاميين. فالمعركة هي إذن بين الأتقياء والفاجرين.
-تحويل وجهة الموضوع من طرق معالجة ظاهرة العنف التي استشرت في تونس ما بعد الثورة ، وتقديم ضمانات قانونية تحمي النساء في الفضاء العمومي وتدفع باتجاه مواطنية فعلية إلى حوار أخلاقوي يؤثّم النساء ويختزل كينونتهن في أجسادهن وسلوكهن في الفضاء العام .فلا غرابة أن تنطلق حملات الأمر بالمعروف من مواقع نهضاوية « كون_#محترمة_#تحترمك_#الرجال !».
- يثير هذا القانون مخاوف فئات من الرجال الذين أسسوا علاقاتهم مع النساء على أساس التسلّط. فيغدو القانون حدّا لسلطة الرجل إذ ما عاد له حق تأديب امرأته وأخته أو ابنته في الطريق العام فلا عجب أن يجمع هؤلاء الحجج التي تثبت أن النساء سيقمن باستغلال هذا القانون للتشفي من الرجال وابتزازهم.
هذه عينة من الدلالات التي وقفنا عليها ولا نبالغ إن اعتبرنا أن طريقة تقبل القوانين المنظمة للعيش معا والتفاعل تعبر عن خصائص البنى الذهنية السائدة في مجتمعنا والتي تقيم الدلالة على أننا بحاجة ماسة إلى ثورة ثقافية .فليست الخطابات المتبادلة إلا حجة على ما وصل إليه بناء الهويات الأنثوية والذكورية من عطب... وليس غياب الأسس المنظمة للحوار إلا علامة على الإفلاس التربوي... وليس غياب النقاش المبني على توظيف أدوات التفكيك التي من شأنها أن تساعد على عقلنة المواقف إلا حجة على الانحدار في المضامين التي تقوم عليها كتبنا التعليمية ومناهجنا وبرامجنا الإعلامية فضلا عن طرق تعاملنا مع الناشئة .
صفوة القول إنّ صدور القوانين محرار لمعرفة ملامح المجتمع وفرصة لتصحيح التصورات ومناسبة لفضح التمثلات وتعديل البوصلة. كما أنّ إصدار التشريعات اختبار حقيقي لمدى قدرة التونسيين على قبول الرأي المخالف وتغيير الصور النمطية وغربلة ترسانة من المفاهيم والتصورات حول الأنوثة والذكورة وعلاقات الهيمنة ...