ليس قدرا محتوما وأن معالجة هذه الأزمة متاح لنا وأن لبلادنا من عناصر القوة والصمود ما يسمح لها باستئناف جدي ومستدام لنمو إدماجي قوي.
كما أن البلاد قد راكمت من الخبرات والتجارب علىامتداد كامل عقود دولة الاستقلال ما يسمح لها بالاستفادة من كل الفرص التي تتيحها اليوم العولمة وأن التنافسية الموضوعية لاقتصادنا مقارنة بالاقتصاديات المماثلة لنا تؤهلنا لارتقاء سريع في سلم القيم..
ما الذي منعنا ويمنعنا من تحويل هذه المعطيات الموضوعية وهذه المتاحات الى واقع ملموس؟ وما الذي يجعلنا نخسر المواقع والامكانيات سنة بعد أخرى حتى عسّرنا على أنفسنا سبل النهوض؟
لا توجد اجابة واحدة عن هذا السؤال. كما لا يوجد مسؤول واحد عن هذا الوضع الذي آلت إليه البلاد..
ثم أن البحث عن المسؤوليات بالطريقة التي تحصل في بلادنا منذ قيام الثورة يزيد في تعقيد الأوضاع لأنه يوهمنا أن فشلنا الحالي مرده الوحيد سوء حوكمة السابقين وأن الحلّ يكمن في نسف كل ما صنعوه دون تمحيص ودون تقييم عقلاني جاد..
لم نتعلم اليوم إنصاف ماضينا والبناء على ايجابياته مهما كانت ضئيلة فرواحنا في نفس المكان بحكم جدلية مدمرة قوامها نسف ما سبق ثم نسف النسف فنسف نسف النسف.
قد يعتقد بعضهم أن العيب كل العيب في الطبقة السياسية التي حكمتنا على امتداد كل هذه السنوات وننسى أننا نحن الذين انتخبناهم وأننا قد أدرنا أعيننا وأفئدتنا عن كل تلك الأصوات الاصلاحية التي كانت تروم المراكمة والبناء.
إذا كان هنالك من عيب منذ 14 جانفي 2011 إلى حدّ اليوم فهو ولا شك في ذلك المخيال السحري الذي طفى على بلادنا والذي جعل أغلبنا يعتقدون أن الرفاهية ممكنة دون عمل وكدّ وجهد واجتهاد وأن خزائن الدنيا ستفتح أبوابها على مصراعيها بمجرد التخلص من الحكام السابقين ومن فسادهم فأصبح همّ جل النخب المؤثرة البحث عن «منوال تنموي جديد» دون الالتفات بداية الى ضرورة تحقيق التنمية الآن وهنا.
لقد أرادت جلّ «قبائل» تونس الحديثة اقتسام ثمار ثروة لم تخلق بعد ولم نعمل بجدّ في خلقها وكأن خلق الثروة على الطرق «التقليدية» أمر غير جدير باهتمام جلّ هذه «القبائل».
نحن نريد من كل من حكموا أو ساهموا في حكم البلاد على امتداد كامل العقود السابقة أن يقوموا بنقدهم الذاتي ولكننا نرفض جميعا الخروج من منطقة رفاهنا إذ أن العيب دوما في الآخر وليس فينا..
إن ما يحصل اليوم في تونس نتيجة طبيعية لكل اخفاقاتنا السابقة ولهذه العقلية القبلية التي تسود جلّ مكونات بلادنا.
لا شك أن المسؤوليات هنا ليست متساوية، لكن لا يكاد يخلو طرف واحد من جزء منها ونقصد هنا كل مكونات المجتمع والدولة المنظمة منها في هياكل واضحة وغير المنظمة كذلك لأننا كلنا شركاء في صناعة هذا المخيال القبلي السحري الذي يهيمن على البلاد والذي أدى بنا اليوم الى هذه الشعبوية الطوباوية المنقطعة عن القوى الفاعلة في المجتمع.
نقول ونؤكد في هذه الأعمدة أن انقاذ البلاد ووضعها على السكة السالكة أمر مازال ممكنا ولكن شروط امكانه تعسر يوما بعد آخر.
أوّل شروط الامكان هذه هي الاعتراف بالأزمة أولا وبالفشل (النسبي على الأقل) في ادارتها وأننا لن نخرج من هذه الدوامة دون مصالحة شاملة ونقدية مع الماضي القريب والبعيد واخراج المحاسبة، الضرورية لكل دولة قانون، من دائرة الخصومة السياسية والايديولوجية.
ولكن هذا وحده لن يكفي ما لم ندرك أنه لا خلاص لنا إلا بالعمل وبالانتاج والانتاجية وأن الديمقراطية التشاركية هي الطريق الوحيدة الموصلة إلى رفاه جماعي ممكن، وأن التعويل على الذات يعني اصلاح البلاد ومحاربة ثقافة الكسل والتكية وتحرير كل طاقات الانتاج (وكل تونسية وتونسي هما طاقة انتاجية) من بيروقراطية تجاوزها الزمن.
الانقاذ ممكن شريطة الاحتكام إلى العقل وإلى العلم وإلى المصلحة.