خاصة إذا تزامن انكارنا لها مع عدم استعدادنا التام لها..
لقد حصل ما توقعه جلّ المختصين والملاحظين: ميزانية ضخمة تستهلك 43 ٪ من الناتج المحلي الاجمالي، لكنها ميزانية تقشفية يتراجع فيها الدور الاجتماعي بصفة ملحوظة على مستوى الانتداب في الوظيفة العمومية ودعم المحروقات والكهرباء والمواد الأساسية ويخصص فيها أقل من 7 ٪ للاستثمار العمومي.
ميزانية يتكون ثلثها (حوالي 24 مليار دينار) من الاقتراض ونحتاج فيها إلى قرابة 15 مليار دينار من الاقتراض الخارجي ونحن لا نملك منها عند اصدار مرسوم الميزانية حتى العُشُر، بل لم تجدد بعد الجهات التي سنسعى للتعامل معها وذلك في حدود 4٫7 مليار دينار..
كل هذا علاوة على غلبة الطابع الجبائي وغياب شبه كلي للسعي للخروج من حالة الركود التي يعاني منها اقتصادنا منذ خروجنا من أزمة «الكوفيد» سنة 2020.
هذه هي السياسات العمومية الأساسية للسلطة القائمة اليوم في البلاد مهما كان التنسيق الخطابي والشعارات الاستهلاكية.
لا شك أن بعض هذه الإجراءات ضروري وأن انقاذ المالية العمومية مسألة مهمة للغاية، ولكن هذه السياسة التقشفية تستوجب حتما خطابا مصاحبا لها يفسر ضرورتها أولا وسبل الخروج منها ثانيا مع رؤية جديدة لتنشيط روافع الاقتصاد ثالثا..
لا شيء حصل من كل هذا بل مازلنا أمام خطاب انكاري هو في تناقض تام مع الممارسة الفعلية التي تتجلى بوضوح تام في مرسوم المالية لهذه السنة.
النتيجة واضحة وجلية: ارتفاع نسبة التضخم مرة أخرى لتبلغ أعلى نسبة لها منذ حوالي أربعين سنة إذ يتوقع وزير الاقتصاد والتخطيط أن تتجاوز 10 ٪ في السنة القادمة والأرجح أنها ستكون في حدود 12 ٪ أو 13 ٪ مادام سيتم رفع الدعم كليا عن المحروقات وجزئيا عن المواد الأساسية (بحدود الثلث) والأكيد أن كل فئات المجتمع ستفقد جزءا من قدرتها الشرائية رغم التعويضات المالية التي يُقال أنها ستشمل ثلثي التونسيين.
والغريب في هذا كله أن الحكومة مقبلة على هذه الإجراءات الخطيرة في مناخ متوتر سياسي كما لم تشهده البلاد منذ عهد الترويكا غير المأسوف عليه ومع اصرار على مسار سياسي وانتخابي رفضته الغالبية الساحقة من التونسيات والتونسيين.
تشتغل السلطة السياسية -حتى قبل تشكيل حكومة نجلاء بودن- على برنامج تقشفي يحظى بموافقة صندوق النقد الدولي دون أن تهتم ولو جزئيا بالبحث عن مقبولية اجتماعية دنيا بل اكتفت بشعارات فضفاضة: اصلاحات كبرى.. توجيه الدعم إلى مستحقيه.. التعويل على الذات.. الحفاظ على الطاقة الشرائية للفئات الهشة.. العدالة الاجتماعية والجبائية لكن ما سيلمسه جل التونسيين في حياتهم اليومية غير هذا بصفة جذرية.
تونس تحتاج ولا شك إلى ترشيد للإنفاق العمومي حتى تتحكم بصفة جدية في تداين الدولة (خدمة الدين العمومي ستبلغ 21 مليار دينار في هذه السنة أي أربعة أضعاف ما كان عليه الوضع منذ 10 سنوات) لكن دون تنشيط قوي للاقتصاد بنوع من الصدمة الاستثمارية يصبح التقشف خطرا يهدد الآلة الانتاجية والسلم الأهلية على حدّ سواء.
لقد «بشرتنا» كل الحكومات منذ سنة 2014 بالإجراءات الموجعة وها هي تتحقق لأول مرة في سنة 2023 ولكن دون تهيئة ودون رؤية وكأننا أمام إجراءات عادية لا تأثير لها على حياة الأفراد والأسر والمؤسسات..
لقد لاحقتنا المعطيات المادية الصلبة التي تحاشيناها منذ أكثر من عقد ذلك أن بلدا يقترض ليأكل مآله الافلاس ولو بعد حين...
إن وقف النزيف أمر ضروري ولكن ما هكذا تورد الإبل وما هكذا نتصرف في حياة الناس!