وراء هذا الطرف أو ذاك وما يتبع ذلك من تبادل للعنف اللفظي. فما إن ينشر خبر يتسم بالغرابة أو له صلة بالمشاهير أو يُتوقع أنّه سيحدث «البوز» حتى يسارع الجميع بإعادة نشره دون أخذ المسافة المطلوبة لفهم الموضوع، ودون التحقّق من صدقيته أو الخلفيات الثاوية وراء نشره أو طرح أسئلة تتعلّق بأخلاقيات تبادل الأخبار أو الصور وما يتصل بالحيوات الشخصية للناس وأهداف النشر إلى غير ذلك من المسائل التي تثبت أنّنا قوم لا ينساقون وراء الانفعالات والأهواء بل نحاول أن نعقلن مواقفنا ونتدبّر في ما يجري من حولنا تدبّرا رصينا يقطع مع التضخيم والمبالغة والتشويه والمغالطات، ولا يتورّط في إيذاء الآخرين أو المتاجرة بقضاياهم او «الركوب على الحدث» لتحويل الاهتمام إلى الذات فيتحقّق الإشباع النفسي.
كان بالإمكان أن يمرّ التوتر بين التلميذة والأستاذ دون إثارة الجدل وصناعة الحدث والسردية والبطولة لولا اعتماد وسائل التواصل الجديدة ونقل ما يجري في الفضاء العام إلى الفضاء الخاصّ، والاستنجاد بالكتائب الفايسبوكية واستدعاء «المشاهير» لينخرطوا في «اللعبة» لتطوي الصفحة بسرعة بعد ظهور أخبار أخرى وما أكثر أخبارنا التي تجذب الجمهور الباحث عن فرص لممارسة الفضائحية والبصبصة والتلصص على أخبار الناس والسحل ونصب محاكم التفتيش و...
غير أنّ كلّ الاهتمام التي حظي به «موضوع التلميذة/الأستاذ» والذي يوحي بحرص الجمهور، والنسويات والحداثيين/ات ووسائل الإعلام... على إعادة النظر في علاقة نظّر لها القدامى حين ألّفوا كتبا في آداب المعلّم والمتعلّم، حتى تتلاءم مع روح العصر، ومع ثقافة الجيل الجديد فضلا عن الرغبة في البحث في أسباب تفشي ظاهرة العنف في الفضاءات التربوية سرعان ما يقلّ باختلاف نوع الخبر وهويّات «الضحايا» وانتماءاتهم الطبقية والثقافية وأيديولوجياتهم وغيرها من العناصر.
ففي نفس اليوم الذي احتدم فيه الجدل حول العقوبة والفن والشهرة وشروط العملية التعلمية والأخلاق ... نشر خبر الشابة التي قتلها زوجها وشرد أبناءها ولكن، وللمفارقة خفت صوت الجماهير ولم تبرز إلاّ أصوات المتعاطفين والناشطات في مجال مناهضة العنف ضد النساء.
تُخبر هذه الطريقة في التعامل مع الأحداث أنّ قتل النساء لا يحتّل سلّم الصدارة لاسيما حين تكون القتيلة من المهمّشات والنكرات. فما يحرّك أصحاب الضمائر الحيّة هو أن تحرم «فنانة» من مواصلة التعليم (على أحقية ذلك) وما يغضب الجماهير هو ذكورية تفرط في الهيمنة ولكن الذكورة «المتوحّشة» التي تنتزع الحقّ في الحياة لا تثير اهتمام التونسين/ات الذين هبّوا لنصرة المراهقة... فهل باتت معايير توصيف الخبر على أنّه جريمة وتصنيفه ضمن الـ«خطير» والمستهجن وغير الأخلاقي مزاجية ومرتبطة بالصورة «صورة فتاة شابة رقيقة فنانة بنت ناس»...؟ ولا عزاء لمن لم تنشر صورتها ملطخة بالدماء مقطوعة الرأس أو تلتهمها النيران...؟
إنّ مجتمعا يتحرّك بسرعة البرق فيدافع عن الفتاة المراهقة الجميلة والرقيقة ويناصر ويطالب ويشتم ويشنّ حربا على «المتعجرف» و«الباندي» و«الجلطام» و«القعر» ... ولا يحرّك ساكنا أمام الاستمرار في تقتيل النساء هو مجتمع معطوب فاقد للبوصلة يجاري الموجة وينساق وراء عرض الذات ويخضع للمحاكاة الآلية والتعاطف الشكلي.
إنّ مجتمعا يستمرّ في ممارسة العمى والنكران ولا يقرّ بأزمة انهيار المبادئ والقيم والأخلاق وغياب الوازع، وسوء فهم الحريات وتخلّي الأسر عن دورها في الإحاطة والاحتواء والرعاية، ...ولا يضجره تواطؤ المؤسسات ومأسسة العنف وتنكّر الدولة لواجباتها في حماية النساء وتنصّل الإعلام من دوره في تقديم المحتوى الإرشادي والمسؤول والإيجابي positive media مجتمع مأزوم يمرّ بتحوّلات خطيرة ولا يهمّه البحث في تبعاتها.
إنّ مجتمعا يطبّع مع قتل النساء ويحولهن إلى أرقام وأسماء توضع في ملفات تؤرشف ويكون مصيرها النسيان مجتمع لا يعوّل عليه فكيف يكون البناء والإصلاح والتطور لشعب مات فيه الحسّ الإنساني؟