الإستراتيجية اللاتواصلية للسلطة أمام اكراهات إدارة الشأن العام: هل تبيح الضرورات بعض المحظورات ؟ !

إذا رمنا توصيفا سريعا لعلاقة السلطة الحالية بالرأي العام لقلنا بأنها تسعى إلى القفز على كل الوسائط التقليدية – ومن بينها وسائل الإعلام – متوهمة بأن بياناتها

أو تصريحاتها أو «حوارات» بعض المسؤولين فيها في أطر لا تقلق مطلقا منطقة رفاههم،أن ذلك هو «الاتصال» بالشعب وان كلمة السلطة وخطابها ورسائلها لا تحتاج البتة إلى المرور عبر وسائل الإعلام التي ستشوهها وتحرفها بالأسئلة «المشاكسة» و»اللامسؤولة» وأن نفاذها المباشر إلى الشعب شرط إمكان نقائها وطهوريتها ..

تلك هي إستراتيجية رئاسة الجمهورية منذ البداية إذ لا وجود ،تقريبا،لآي وسيط لإيصال الكلمة الرئاسية باستثناء الفيديوهات والبيانات الإعلامية على صفحة رئاسة الجمهورية ..

وقد سارت حكومة السيدة نجلاء بودن على نفس هذا النهج فبعد أكثر من سنة لم تدل رئيسة الحكومة ولو بحوار يتيم لوسائل الإعلام التونسية كما أن بعض الوزراء الذين يتوجهون الى وسائل الإعلام بين الفينة والأخرى لا يفعلون ذلك استجابة لحق المواطن في الإعلام بل لتبليغ رسالة حكومية لا غير ثم ترى جلّهم يتخيّرون بعض الفضاءات الإعلامية التي يغيب فيها السؤال الجريء والمحرج حتى يجدوا أنفسهم في طريق سيارة وفي مونولوج لا يقطع إلا بـ«سيدي الوزير..شكرا سيدي الوزير على المجهودات الجبارة التي تبذلونها»..

نحن أمام خيارات تواصلية تخشى الإعلام أو تعاديه ولكن الأعمق والأخطر في هذه الخيارات وجودنا أمام سلطة لا تعتبر نفسها قابلة للمساءلة أو انه من واجبها الإجابة عن انتظارات الناس في سياقات لا تتحكم فيها هي بل تضبطها قواعد مهنتنا في عموم أصقاع الدنيا ..

الفلسفة من هذا كله أن القضاء أو تهميش كل الأجسام الوسيطة – بما في ذلك وسائل الإعلام – سوف يؤدي بنا إلى العالم الوردي الذي نحلم به وهو العالم الذي تنتفي فيه السياسة (عالم ما بعد السياسة) حيث ينتفي فيه صراع الأفكار والإيديولوجيات والتصورات الكبرى ليحل محله عالم بسيط يحكم فيه رئيس عادل ولا توجد فيه سوى مسائل تقنية بسيطة سوف تجيب عنها السلطة متى رأت أن الوقت مناسب وبالصيغة التي تراها ملائمة والتي تراعي فيها ضعاف العقول والقلوب ..

يمكن أن تجد هذه السياسة اللاتواصلية بعض حظوظ النجاح لو كنا أمام سلطة قادرة بصفة واضحة على تحسين حياة الناس وأوضاعهم المعيشية بصفة واضحة ودائمة وملموسة، حينها قد تضعف حجة الإعلام نسبيا في مطالبته بالشفافية والمساءلة والمحاسبة ولكن الوضع على غير هذا تماما والقادم القريب لن يكون أفضل مهما سعت الدعاية الحكومية لتزيين عكس ذلك .

صعوبات تونس المالية والاقتصادية أدت بها إلى اللجوء مجددا إلى صندوق النقد وقد نجحت السلطات النقدية والمالية والاقتصادية في البلاد في الوصول إلى اتفاق الخبراء مع الصندوق..اتفاق سيصبح رسميا في ديسمبر المقبل ..اتفاق فيه التزامات غليظة من الدولة التونسية للحد من الإنفاق العمومي في كتلة الأجور ولاسيما في ميزانية الدعم مع تعهد رسمي بالعمل على خوصصة بعض المؤسسات العمومية مع السعي إلى إصلاح جبائي وتنشيط الاقتصاد قصد تحقيق استدامة الدين العمومي ..

دعت رئاسة الحكومة يوم أمس مجموعة هامة من وسائل الإعلام للحوار مع الوفد الرسمي الذي توجه إلى واشنطن للحوار مع صندوق النقد وهم وزيرة المالية ووزير الاقتصاد ومحافظ البنك المركزي، والموضوع هو مضمون الاتفاق مع الصندوق، فماذا وجدنا؟ المنهجية الحكومية التي عملت بها للحصول على هذا الاتفاق أما ماهي بنوده العملية والتي تهم حياة جميع التونسيين فلم نظفر بشيء منها رغم إلحاح كل الزميلات والزملاء ..

لقد أكد لقاء أمس على وجود سوء تفاهم جوهري بين أعضاء الحكومة –رغم حسن النوايا وصدقها –وبين عموم وسائل الإعلام وأهل المهنة ..
الإعلاميون يريدون المعلومة بما في ذلك تلك التي لا تريد الحكومة الإفصاح عنها اليوم،والمسؤول الحكومي لا يريد أن يتحدث إلى وسائل الإعلام إلا عندما يكون قد أنجز شيئا إيجابيا ..

لسنا ندري هل وصلت رسالة الإعلام – وقد كانت واضحة وقوية – إلى المسؤولين الحكوميين الحاضرين ومن ورائهم إلى كل مكونات السلطة السياسية ام لا ؟ لكن الأكيد إن التبعات الهامة لهذا الاتفاق مع صندوق النقد والذي سيكون البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للدولة خلال السنوات الأربع القادمة ..هذه التبعات لا يمكن إخفاؤها كثيرا لأن وطأتها ستمس جل التونسيين في حياتهم اليومية ولا يمكن لدولة تحترم الشروط الدنيا للعقلانية أن تشرع فيها دون حوار شامل وصريح مع مواطنيها، دونها سيكون الفشل الذريع مآل كل مجهوداتها مهما كانت هامة وضرورية ..
فهل ستبيح هذه الضرورات الجديدة بعض المحضورات الحالية ؟ ذلك هو السؤال .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115