ولكنّنا نرجع مرّة أخرى، إلى الموضوع لنتوقّف عند فئة من الأمّهات اللواتي شددن الرحال إلى بلاد تُتمثّل على أنّها الملاذ الآمن. وفي التركيز على هذه الفئة بالذات إشارة إلى الفروق بين النساء وتعدّد تجارب الأمومة، وتنبيه إلى أنّ الهويات تتغيّر بتغيّر السياقات وأنّ الدوافع تتنوّع جندريا ما يفرض تجديد المقاربات وطرائق التحليل.
فبعد أن ظلّت «الحرقة» ذكورية بامتياز ومرتبطة بالشباب ثمّ الكهول صارت اليوم مسلكا يستهوي الجميع والحلّ الأوحد لمن فقد الأمل أو الصبر أو سحقته الأنظمة السياسية والاجتماعية والجندرية والدينية والأخلاقوية... لذا تتضاعف اليوم أعداد النساء والشابات الملتحقات بـ«قوارب الموت» وترتفع نسبة الأمّهات المصحوبات بأطفالهن.
وما يسترعي الانتباه في رود فعل عدد من «المحلّلين» وروّاد «الفايسبوك» هو العنف اللفظي الممارس ضدّ الأمّهات الذي يصل إلى حدّ تأثيمهن وتجريدهن من صفة الأمومة. وفي المقابل يُعامل الآباء بطريقة أقلّ قسوة بل قد تُوفّر لهم المبرّرات وتُشرعن قراراتهم وأفعالهم. ثمّ إنّ ما يلفت الانتباه في التفاعل مع هذا الوضوع لا التعاطف المناسباتي «الحماسي» الذي سرعان ما يتوقّف بعد أرشفة الخبر بل ميل القوم إلى إصدار الأحكام الأخلاقية والاجتماعية، خاصّة على الأمّهات العازبات أو الأرامل والمطلقات لأنّهن لم يكن ضحايا وتابعات لأزواج قرّروا الهجرة بل هنّ نساء حَلمن ومارسن حقّهن في الاختيار وفي حرية التنقل فدبّرن وخطّطن وأقدمن على «الحرقة» بعد أن «احترقت» أعصابهن.
وبالرغم من كلّ هذه التحوّلات لازال أغلبهم/ن يعتبر النساء موضوعا للبحث ويسمح لنفسه/ها بأن يصادر حقّهن في التعبير عن تجاربهن ومعاناتهن. ولكن تأتينا اليوم، بعض الردود في شكل تدوينات على «الفايسبوك» أو شهادات لتثبت لنا أنّ الأمّ العزباء المتحصّلة على شهادة عليا في القانون قادرة على امتلاك الصوت وشرح الأسباب. تقول إحداهن: «أنا أمّ ولدي ابن في العام الثاني من عمره حين قررت الهرب من ذلك الخراب الذي يدعى «وطن» في مركب صيد صغير عابر للبحار «خلسة» .الرحلة دامت ست عشرة ساعة كاملة... نجحنا في الهرب من «الوطن» الذي لا ينتمي إلينا من الأساس و لا يعرفنا رغم أننا بذلنا السنين الطوال في محاولة لفت إنتباهه أنا التي أنشدت مرارا «هلموا هلموا لمجد الزمن» خلال سنوات التعليم الطوال لم أجد زمانا مجيدا في بلد اللصوص والمختلين أخلاقيا وإنسانيا فقررت أن لا ينشد إبني نشيدا كاذبا وأن لا يمارس اليأس في عباءة الإنتظار، حملته بين ذراعي وأقفلت على ذلك الصوت الذي يناديني من الداخل قائلا: «ماذا لو غرق إبنك أمام عينيك في البحر، ماذا لو هبت العاصفة وتحطمت المغامرة لتحل الفاجعة، ماذا لو قالت الصحافة والأخبار والمنظمات وحرس الحدود وشرطة الأخلاق والأمهات الصالحات العاقلات والأصدقاء والأعداء والمحللون والسياسيون والمهربون بأنك قتلت إبنك وعرضت حياته للخطر ووزعوا الصور والتعازي والأقاويل والأحكام والسخافات والولاويل الكاذبة «لكننا نجونا من الموت ومن «الوطن» معا وفي آن واحد».
هذه الفئة من الأمّهات العازبات «الحارقات» صرن اليوم مرئيات وفاعلات وصاحبات قول وقادرات على إرباك التمثلات الاجتماعية والصور النمطية التي تقرنهن بالضعف والخوف والجبن والقصور... وهنّ إذ يكتبن لا يعبّرن عن معاناتهن ووجعهن ومقاومتهن وصمودهن بقدر ما يتحرّرن من الخوف والإكراهات فيمارسن المواجهة: مواجهة مختلف الأنظمة والمؤسسات وتعرية الرياء والنفاق الذي تمارسه مختلف الجهات بما فيها المنظمات الحقوقية والجمعيات النسائية والأحزاب و....
ولكن لازالت «الحارقات» غير مؤثرات لأنّهن لسن «صانعات محتوى» ولا كرونيكورات فاتنات... ولأنّ الرئيس لا يصغي ولا يرى ويصعب عليه أن يتعاطف مع من انجبت خارج «مؤسسة الزواج» وفرّت بعد 25 جويلية المبارك. ولا يختلف الحال بالنسبة إلى رئيسة الحكومة التي تؤثر الصمت أو وزيرة المرأة التي تغضّ الطرف أو وزير الشؤون الاجتماعية الذي لا يحرّك ساكنا .الكلّ مطالب بالتأمّل في كيفية تغيّر علاقة التونسيين بالبحر والبحث عن الدلالات والمعاني والرموز... كيف انتقلنا من الرومانسية إلى العبثية والعدمية و...
وعندما يتمأسس العنف ويغدو ظاهرة مركّبة ومعقّدة يبقى البحر الملاذ الأخير بالنسبة إلى «الحارقين/ات» وكذلك ملاذ الحكومة التي تنصّلت من المسؤولية فلم تفهم التقاطع بين مختلف بنى الهيمنة وبين صلة العنف المنزلي وكل أشكال العنف ضدّ النساء والقمع البوليسي والفساد والفقر والبطالة واللااستقرار السياسي... بـ«الحرقة».