تتالت النوائب والفواجع في ظل صراعات سياسوية: الهروب الجماعي من بلد دون عقل

يقول تميم البرغوثي في قصيدته هلال «كُفّوا لسانَ المراثي إنها تَرَفُ .. عن سائرِ الموتِ هذا الموتُ يختلفُ» لعمري لعلها انسب ابيات شعر لرثاء 18 تونسية وتونسي

لقوا حتفهم في البحر وهم « يفرون» من بلد اعادهم البحر الى شواطئه ليواروا الثرى في مقابره كمجهولين.
واقعة لم تكن الأولى ، فوفق الاحصائيات التي يقدمها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بلغ عدد الضحايا والمفقودين للهجرة غير النظامية حتى أخر سبتمبر 544 شخصا. وهو ما يمثل نصف عدد الضحايا والمفقودين في البحر الابيض المتوسط في الاشهر التسعة المنقضية لسنة 2022.
فاجعة جرجيس التي انطلقت احداثها في 22 سبتمبر الفارط، بغرق مركب للهجرة غير النظامية حمل 18 شخصا لم تعلم اسرهم بما لحق بهم إلا مؤخرا رغم ان السلطات قامت بموارتهم الثرى في مقابر خاصة بمن يلفظهم البحر وسجلتهم كمجهولين، لتفاقم من فاجعة ذويهم ومن خلفهم شق من التونسيين. ممن ذكرتهم الصور القادمة من شواطئ مدينة جرجيس التي استقبلت جثثا لفظها البحر بعد ان تحللت وبقايا لمقتنيات ومتعلقات اصحابها بالصور التي جابت العالم لتنقل مأساة الشعب السوري. حينما نقلت مشاهد لضحايا فروا خوفا من الموت في الحرب الى البحر فصَرَعهم ونثر رفاتهم على شواطئ المتوسط.

صور لم تكن وحدها ما جعل فاجعة جرجيس اشد وقعا مما سبقها. بل ما حف بها من تفاصيل عدة، تصريحات للقائمين على السلطة الجهوية، كيفية التعامل مع جثث الضحايا وخطابها الذي بحث عن التنصل من المسؤولية وإلقائها على عاتق الاسر والضحايا وختاما البحث عن تبرير الكارثة بانها «مؤامرة». وتجاهل الاحصائيات التي تكشف عن وصول 13750 تونسيا وتونسية بطريقة غير نظامية الى الساحل الايطالي إلى غاية سبتمبر الفارط، مع العلم ان السلطات اعلنت عن ايقاف 23517 شخصا ممن كانوا في طريقهم الى الهجرة غير النظامية.
كل هذا يجتمع و يلتقى ليعزز الانطباع الغالب لدى شق واسع من التونسيين بأنه لم يعد على هذه الارض ما يستحق الحياة طالما أن «الحاضر» يعاش في ضنك والغد لم يعد معلوما ولا مضمونا لهم ولأبنائهم. لذلك فإن من استطاع منهم «الفرار» فر بالطريقة التي تتناسب مع مؤهلاته وإمكانياته. يقودهم في ذلك انطباعهم ان لا مستقبل لهم في البلاد.

وللأسف فان هذا الانطباع استشرى في صفوف التونسيين الذين باتوا في قطيعة شبه كلية مع الفاعلين في الشأن العام غير المهتمين بالارقام او الاحصائيات ولا المؤشرات او اي ضرب من «الحقائق» بقدر ما هم مهتمون بالتقاط ما يعزز انطباعهم بأن القطيعة لم تعد بينهم وبين الطبقة السياسية فقط بل امتدت إلى القطيعة مع البلاد نفسها.

وهنا يجدون العشرات من الحوادث والأحداث التي تغذي انطباعهم بأنهم في معركة مفتوحة بمفردهم ضد «الغد» الذي بات يثير الرعب في نفوسهم ويدفعهم للبحث عن حلول فردية للنجاة وضمان ما يعتبرونه «مستقبلا أمنا» يضمن فيه لهم حق العيش الكريم والأمن المادي والنفسي.
هذا هو مطلب جزء واسع من التونسيين وهذا محركهم الذي يدفعهم لعدة خيارات من بينهما المخاطرة بالهجرة غير النظامية التي لم تعد لدى عدد هام من الاسر التونسية في اعلى قائمة المخاطر، اذ تغير الترتيب في هذه القائمة لتكون عملية الهجرة غير النظامية بما يحف بها من مخاطر عالية اقل خطرا من «العيش في تونس».

هنا يتضح أن العدو الفعلي للتونسيين والتونسيات وللآلاف من الاسر التي انخرط ابناؤها في مسارات الهجرة غير النظامية. والعدو هو الخوف من الغد وانعدام الافق او اي مؤشر بان المستقبل هنا في تونس قد يحمل بشائر العيش الكريم. وهذا ما بينته عمليات سبر الاراء طوال السنين الفارطة والتي كشفت عن ارتفاع منسوب التشاؤم لدى التونسيين. والذي بالكاد انخفض خلال الاشهر الفارط حتى عاد الى مستوياتها السابقة.

تشاؤم ولد خوفا يتفاقم منسوبه بفضل الانطباع السائد بصعوبة الحياة في البلاد وصعوبة الخروج من النفق الذي طال البقاء فيه ومع طول المدة يصبح الانطباع لدى من يحمله «حقيقة» لا مفر منها الا بالمخاطرة والبحث عن حل فردي. وهو ما قد يفسر لجؤ قرابة 40 الف تونسي خلال الاشهر التسعة المنقضية الى المخاطرة بحياتهم في البحر.

هنا لا يمكن القبول والاستكانة الى خطاب التبرير او البحث عن تفسير هذه الظاهرة على انها محاولة معزولة لافراد «تعثروا» في تامين مستقبلهم في تونس وان هذه الظاهرة لا تقدم اي مؤشر عما بلغه وضع البلاد من تأزم جعلها «نافرة» وطاردة لأبنائها وبناتها شيبا وشبيبة وصبية، فهذا سيكون اشد نكاية من الفاجعة نفسها فهذا ما يمثله تجاهل السياسيون والحكام وكل من يهتمون بالشأن العام لما باتت تمثله ارقام التونسيين الذين يحاولون الفرار من البلاد بطرق نظامية او غير نظامية من مؤشر على خطر استمرار الصراعات السياسوية وتقديم اولويات فئوية على اولويات التونسيين.
اليوم لم يعد من الممكن الاستمرار في هذه الصراعات الضيقة التي يرهن فيها مستقبل التونسيين من قبل سياسيين غلبهم طموحهم الشخصي عن ادراك ان العدو الفعلي للتونسيين وهو غياب الحلم المشترك بغد افضل لهم ولابنائهم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115