رغم اصطدامها بعديد الحقائق المادية الصلبة: نظرية البناء القاعدي ومناهج ما بعد الحقيقة

منذ حوالي القرن قال الزعيم البلشفي لينين «وحده الواقع ثوري» ولكن بعض «الثوار» الجدد من أصحاب أو أتباع نظرية «البناء القاعدي»

أصبحوا يرون أن الواقع - أو لنقل- الحقائق المادية العادية في تسيير الدولة وسياسة شؤون الناس، إنما هو من قبيل مؤامرات المنظومة القديمة وأن الأساسي لا يكمن في الحقيقة المتواضع حولها بل ما نعتبره «نحن» حقيقة حتى وإن كان لا يوجد دليل واحد عليها .
يقيم التاريخ المعاصر لجلّ شعوب العالم الدليل على أن العديد من الأغلبيات أو الأحزاب التي وصلت إلى سدة الحكم سواء عبر الانتخابات أو عبر الدبابات والتي أرادات إحداث التغييرات التي تراها ضرورية خاصة في مجال السياسات العمومية، عندما اصطدمت بالمعطيات الصلبة للواقع راجعت حساباتها وسعت إلى التأقلم مع المعطيات الواقعية بمقادير مختلفة من العقلانية .

كان ذلك تصرف جلّ الحركات الإصلاحية وبعض الحركات أو الأغلبيات التي تعتقد أنها حاملة لرسالة ثورية. ولكننا نجد لدى صنف مختلف من التيارات السياسية التي يصطلح على تسميتها بالشعبوية موقفا جديدا ومغايرا من الحقائق المادية الصلبة خاصة عندما لا تكون منسجمة مع تصوراتهم ولا تساعد بالمرّة على تحقيق أهدافهم،فتصبح الحقائق أكاذيب، أو مؤامرات أو مرويات المنظومة القديمة لإحباط «الزخم « الثوري ويستعاض عنها كلها بحقائق بديلة أو بما يعرف في مفاهيم العلوم السياسية بما بعد الحقيقة (Post vérité).

هنالك اضطرابات في تزويد السوق بمواد تحتكر الدولة استيرادها وتوزيعها،الحقيقة الكلاسيكية تقول أن هذا ناجم عن عدم استباق تقلبات السوق العالمية والتفريط التدريجي في المخزونات الإستراتيجية نظرا لتردي العلاقة مع بعض المزودين الذين أصبحوا يشترطون الخلاص المسبق كذلك للتداين المجحف لبعض المؤسسات العمومية المسؤولة عن تنظيم هذه الخدمات .. لكن هذه «الحقيقة» لا تقنع الساسة الحاكمين اليوم لأنها تعيدهم إلى مربع الحقائق المادية الصلبة والتي لا يملكون لها حلا فتصبح اضطرابات التوزيع هذه نتيجة مؤامرات سياسية دبّرت بليل من طرف جهات هدفها الوحيد التنكيل بالشعب التونسي وتجويعه قصد دفعه إلى التمرد على السلطة الشعبية صاحبة الشرعية والمشروعية لإسقاطها وإرجاعها لحكم اللوبيات بديلا لها .

هنالك مشاكل هيكلية في منظومات اللحوم البيضاء والحمراء والبيض والألبان ؟ ما بعد الحقيقة ترجع كل هذا إلى نفس اللوبيات التي تتربص شرا بالشعب التونسي وتستهدف قوته والأمن الغذائي للبلاد.
نقترض من بنوك عالمية لتمويل شراءاتنا من الحبوب ؟ يصبح ذلك استجابة لتمويل مشروع صمود الأمن الغذائي ..

هنالك أزمة سياسية في البلاد ؟ الحل في الانتخاب على الأفراد والاستبعاد العملي للأحزاب. الآلة الاقتصادية معطلة والبطالة في ازدياد ؟ الحلّ في الصلح الجزائي وفي الشركات الأهلية .
يمكن أن نعدد هذه الأمثلة إلى ما لا نهاية له والجواب دوما لا ينتمي الى عالم الحقائق والوقائع التي تعودنا عليها وتواضعنا حولها فهذه كلها لوبيات تعمل وراء الستار وتحرك دُماها في كل مكان قصد استهداف «الجمهورية الجديدة» .

نحن إزاء إيديولوجيا جديدة «البناء القاعدي» والتي تسعى الى السيطرة والهيمنة الثقافية وفق المفهوم القرامشي،لا انطلاقا من الانتصار في صراع فكري مفتوح ضد الخصوم بل من خلال تغيير معطيات الواقع من خلال أدوات الدولة،فبعد أن تغيرت قواعد اللعبة السياسية من خلال دستور 2022 بداية بالسلطة التشريعية القادمة بغرفتيها، ها نحن بصدد محاولة إنشاء أوسع شبكة ممكنة من الزبونية السياسية عبر هذه الشركات الأهلية التي يسارع الولاة وتنسيقيات البناء القاعدي الى إنشائها في كل معتمدية والتي ستتمتع بالتصرف في الأراضي الاشتراكية وفي جملة من المرافق العمومية مع أمل تمويلها من عائدات الصلح الجزائي وذلك كله قصد تحقيق تحول ما في علاقات الإنتاج والتلويح بتمتيع الفئات المهمشة بالثروة التي حرمت منها على امتداد عقود بل قرون.

لكن هل يقتصر الاقتصاد والآلة الإنتاجية التونسية على هذه الشركات الأهلية ؟ وماهو مآل ومصير الجزء الأساسي من اقتصادنا في القطاعين العام والخاص؟ وما هو الموقف من الإصلاحات الكبرى التي تتحدث عنها الحكومة وتتفاوض بشأنها مع صندوق النقد الدولي؟ كيف ننهض باقتصادنا في سلم القيم؟ وكيف نكتسح أسواقا جديدة؟ وكيف نرفّع من إنتاجية ومردودية سلعنا وخدماتنا ؟ كيف ننهض بالفلاحة والعاملين فيها؟ كل هذه الأسئلة لا تجد مجرد بداية إجابات عنها لأنها بكل بساطة لا تنتمي إلى عالم ما بعد الحقيقة عند أصحاب نظرية البناء القاعدي .
نحن أمام تجربة نادرة نسبيا حيث يسعى أصحاب إيديولوجيا ما لفرضها على عموم الناس لا بعد الانتصار في معركة الأفكار ولكن بعد الاستحواذ الديمقراطي على السلطة ثم السعي المحموم إلى إحلال ‹»حقيقة بديلة» عما هو معلوم من العقل بالضرورة .
لكن «وحده الواقع ثوري» طال الدهر أو قصر.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115