كانت السنوات التي تلت استقلال البلدان العربية تحمل حلم استكمال البناء والذود عن الأوطان وتحقيق التنمية حتى ان الشعوب الحالمة قبلت بمقايضة حريتها بدولة الرعاية وصبرت على الاستبداد في انتظار تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة وتجندت بصدق للدفاع عن الارض ضد اي عدوان خارجي ، باعتبار أن الوطنية خيار يقتضي مواجهة الاستعمار والامبريالية قبل اي شئ اخر … الا انه تبيّن بعد عقود من الخطابات الرنانة والخيبات المتتالية والفشل في مواجهة كل التحديات ، داخليا وخارجيا ،بدليل الهزائم المريرة و المتكررة ، ان النظام العربي تحوّل الى عبء يستزف مواطنيه ماديا ومعنويا وحتى نفسيا، وان شعارات التنمية والاشتراكية والوحدة لم تأت الا بمزيد التقسيم والتجزئة والتفاوت الطبقي والاجتماعي ، وان الانظمة ، كل الانظمة، لم تنجح الا في استدامة حكمها والتعويض عن فشلها الذريع بمزيد القمع واستباحة اوطانها وتحويلها الى ملك خاص ، لها ولعائلتها ، حتى ان التوريث أصبح الهم الوحيد للحاكم ... لذلك طرحت الانتفاضات العربية منذ 2011، مسالة الديمقراطية، لا كغاية ومطلب استراتيجي ، بل كوسيلة للتخلص من رؤوس الانظمة وفساد بطانتها وتحقيق عدالة اجتماعية تستوجب حوكمة رشيدة وادارة جيّدة وقضاء عادل ومستقل ، وكانت الديمقراطية والحرية ، الى جانب العدالة والكرامة ، من أكثر الشعارات التي ترددت من تونس الى القاهرة واليمن والسودان... لكن ما ان سقطت رؤوس الأنظمة حتّى تبيّن التباس المفهوم ، لا فقط لدى الشعوب ، بل حتى عند النخب ، التي لم تستوعب الديمقراطية إلا كشعار تناكف به أنظمة مستبدة.
• معادلة مستحيلة؟
في مقال هام صدر بمجلة «لوبوان» في اوت 2021، أي بعد إجراءات 25 جويلية 2021، تساءل الباحث جمال بويور، الأستاذ بالجامعات الفرنسية، عن مدى تلاؤم الديمقراطية مع حاضر المجتمعات العربية، خاصة «بعد أن أغلقت تونس التي كانت التجربة الديمقراطية العربية الوحيدة قوس الربيع العربي،» كي يسود «إحساس غير مريح» بأن هناك عداوة بين الديمقراطية والمجتمعات العربية، ومن بين أسباب العداء التي قدمها الباحث هي أن الديمقراطية نتاج مسار تاريخي يتطلب «مرجعيات حضارية» قابلة للتغيير وركيزة ثقافية مؤهلة لاستيعاب المستجدات الثقافية والحضارية الاخرى ، في حين ان الثقافة العربية في أغلبها ،ترفض التجدد والتأثر و تفضل الانطواء وتسهب في تمجيد ماضيها استنادا الى تاريخ جله مضخم ومتعالي.
وفعلا اثبتت سنوات ما بعد الانتفاضة التونسية أن جل من طالبوا بالديمقراطية أيام الاستبداد، وحتى بعض أولئك الذين ضحوا من اجلها، لا يملكون كل مقومات الديمقراطية، أي ذلك السلوك الذي يقبل بحق الاختلاف ويدافع عن المؤسسات ويؤمن بان الوطن بيت شاسع يتسع للجميع ، اغلبنا طالب بالديمقراطية وهو يحمل في داخله مزيجا من استبداد عائلي وديني وثقافي وسياسي واجتماعي سكنه منذ طفولته ثم لبسته في شبابه أيديولوجية مفترسة تحمل «حقائق مقدسة»، فالإسلاميون الذين انتشوا بنجاحهم في الانتخابات الأولى ، فهموا فوزهم على انه بيعة شعب مسلم وبقية التيارات الأخرى لم تنجح الا في منازعة الإسلاميين حول عديد الأمور ، تماما كما كانوا يفعلون مع النظام السابق ،بعض هذه الصراعات ، هي تصفية حسابات أيديولوجية قديمة لا علاقة لها أساسا بأولويات ملحة يتطلبها وضع البلاد، وهذا ما ساهم ، بشكل ما، في تخسيس الفعل السياسي واهتراء مصداقية ديمقراطية هشة ومترددة، كانت تخطو خطواتها الاولى في محيط ثقافي وسياسي وجغرافي معادي لكل تحرر من قيود الماضي، لذلك فان الديمقراطية التي ننادي بها لم تستوعب جميع عناصرها، أي احترام سيادة القانون وحقوق الانسان ونتائج الاقتراع وحرية الأفراد في اختياراتهم وميولاتهم واعتبار الأقلية شريكة في الفعل السياسي...وحتى التكنولوجيا التي جاءت عبر شبابيكنا المفتوحة وساهمت في تجنيد الشباب في المسيرات والاحتجاجات الغاضبة لم ترافقها ثورة فكرية قادرة على مقارعة رواسب أفكار قرون من التعصّب الديني والمذهبي والسياسي، ولا هي قادرة على التخفيف من حدة ايديولوجيا متعصبة وطاردة للأخر المختلف، سلاحها العنف أحيانا.
• الفشل أسرع طريق إلى الشعبوية
طبيعي ان يمهّد فشلنا جميعا الطريق لكل البدائل الممكنة، حتى تلك التي يمتلكها حنين العودة الى الوراء او اولئك الذين يحملون نزوة سلطة يدغدغها حلم فردي متعنت ، فلا نحن نجحنا في إعطاء المثل في احترام المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية ولا نحن اتفقنا على أهمية احترام مؤسساتها، وحتى الدستور الذي يعتبر أقدس مقدسات النظم الديمقراطية (باعتبار أن المقدس الديني هو مسألة شخصية)، سرعان ما وقع التخلي عنه بجرة قلم ودون مقاومة تذكر.
فالخطاب الشعبوي الذي تسلل نتيجة لعديد الخيبات قد استفاد كثيرا من المواقف السياسية المتشنجة والمتعالية ليعوّض كل المؤسسات الديمقراطية بحكم فردي، شعاره الوحيد «اخلقة الحياة السياسية» بقطع النظر عن الطريقة، حتى وإن لم تحترم المؤسسات والأحزاب والحريات العامة والإعلام والصحافة ...وقد اعتبر جلّ التونسيين ان هذه الاخلقة هي المفتاح السحري الذي سيفتح كل الأبواب التي اغلقتها الأحزاب السياسية عبر ديمقراطية «عقيمة»، وهي طريق العدالة التي ستقضي على «فساد القضاء» وتتصدى للظلم والمحسوبية وتشغّل الشباب العاطل وتحقق النمو في الجهات المحرومة...فنحن جُبلنا على عقلية مفادها ان حاجتنا الى حاكم نراه مستقيما وعادلا اكبر من حاجتنا للحرية، لذلك بعضنا يستحضر بحنين العجائز صورة عمر بن الخطاب وهو ينشر عدله في أسواق المدينة ، ينهر هذا ويضرب ذاك ويستفسر عن سعر سلعة هنا ويغضب من تاجر هناك، والبعض الاخر يعجب الى حد التقديس بديكتاتور «وطني حتى النخاع» خسر كل المعارك عدا تلك التي خاضها ضد أبناء شعبه، حيث عوّض عن هزائمه الخارجية بسجن وتعذيب الالاف وتهجير الملايين،ذلك لان لدى العديد منّا سادية مقيتة تستلذ بظلم ذوي القربى...
وقد انتبه كل المستبدين»لمشاعرنا الوطنية» الزائفة ، إذ ما ان يحسوا بسياط النقد الخارجي حول عسفهم ، حتى يحركوا «مشاعر» المنظمات والاحزاب، فتمتلكها الغيرة لتلتحق بركب التنديد... والذود عن الحكام قبل الوطن،، ذلك لان مهما خيّل الينا اننا تقدمنا فلازالت الإرهاصات الماضوية بقداستها المضخمة والاسطورية تحكم عقلية مواطنينا وتجذبنا الى ماضيلم نصدق بعدُ انه لن يعود، غير عابئين بتطور قوانين العصر ومؤسساته واحكامه ، وغير مدركين ان قراءة الأشخاص والحكم عليهم يجب ان تفهم في سياق تاريخي وحضاري محدد وانها غير عادلة ولا هي مجدية بالمقاييس الحديثة، كما ان وعينا السياسي المراهق لم يتخلص نهائيا من بقايا ايديولوجية لم تصمد طويلا امام السياقات المعقدة للواقع ...لهذا كله وقبل ان نندب ديمقراطية ساهمنا في اتلافها علينا ان نكون صادقين مع انفسنا ونطرح السؤال بالشجاعة المطلوبة : «هل نحن فعلا ديمقراطيون؟» وسنرى ان الاجابة هي بداية مسار صحيح.
هل نحن فعلا ديمقراطيون؟
- بقلم مسعود الرمضاني
- 10:21 24/09/2022
- 1150 عدد المشاهدات
«نحن ديمقراطيون جدا، اذ تبدأ مناقشاتنا بتبادل الآراء في السياسة والاقتصاد وتنتهى بتبادل الآراء في الأب والأم»
جلال عامر