ولكن رغم حصول ضربات إرهابية أخرى وتواصل تدهور الأوضاع الإقتصادية، بقيت فكرة الوحدة الوطنية شعارا لم يتخطّ مضمونه الدعوة إلى التآزر الوطني لحماية البلاد من خطر الإرهاب. وبقي الوضع الإجتماعي والسياسي و الإقتصادي في تردي مستمر ، دون أن تلتفّ كل القوى السياسية والإجتماعية حول برنامج «حرب» شاملة لمجابهة كل التحديات، ودون أن تتوصّل حكومة الإئتلاف الرباعي إلى وضع خطّة واضحة تحدّ من التأزم وتفتح السبل لحلول مقنعة تنخرط فيها مختلف القوى السياسية والإجتماعية، لتحريك عجلة الإقتصاد وتحقيق السلم الإجتماعية .
هذا الوضع الصعب وفشل القوى السياسية الماسكة بالحكم وتصدّع صفوف الحزب الأغلبي فيها الّذي عكّر المناخ السياسي العام، وبقاء بقية التشكيلات الحزبية تدور في حلقات مفرغة غير قادرة على الفعل ومعالجة الأوضاع، ترك رئيس الجمهورية في وضع ربّان يدير ويعالج أوضاع طاقم سفينته دون الإبحار في عباب التغيير الّذي يرنو له الشعب.
حالة شبه العجز هذه جعلت رئيس الجمهورية يعلن عن مبادرة جديدة جاءت في قالب تفاعل إيجابي مع بعض الدعوات إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، كما أكّده هو نفسه عشية الخميس 2 جوان 2016 بعد أن احتفل يوم 1 جوان بوضع النصب التذكاري للزعيم بورقيبة الذي سبق أن حلت باخرته بميناء تونس، ليصبح هذا اليوم رمزا لإنتصار تونس على الإستعمار إذ أصبح يطلق عليه «عيد النصر».
هذا التشابه الزمني لا يحمل مضمونا مشابها ولكن كان هو التّاريخ الذي تمّ اختياره للإعلان عن المبادرة التي تمّت فيها الدعوة إلى الإنخراط في فكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية، وجاء ذلك في نطاق إبداء رأي وتقديم مقترح وليس في نطاق ما يخوّله الدستور للرئيس من صلاحيات تتعلّق بما له من حق في اتخاذ تدابير استثنائية طبق إجراءات ضبطها الدستور .
وراء تمشي رئيس الجمهوري، اعتبار أنه رئيس كل التونسيين وراعي مصلحة البلاد ورمز وحدتها وما له من سلطة معنوية، فمنح لنفسه صلاحية إقتراح أي مبادرة يعتبرها تخدم الصالح العام، باعتباره منتخبا مباشرة من كافة أفراد الشعب.
ولكن المعضلة الدّائمة لرئاسة الجمهورية الثانية ، أنها تطلق المبادرات وتقترح المشاريع دون تهيئة مُمنهجة تضمن قبولها ودون الإعتماد على أشخاص مستوعبين للمبادرات وقادرين على العمل والإقناع بها. ولعلّه لهذا السبب لم ير مشروع المصالحة الإقتصادية النور إلى حد الآن، ولم تقع تسوية الخلافات داخل حزب نداء تونس ولم تحقّق حكومة الصيد المنتظر منها رغم سيرها بهدي و نصح متواصل من رئاسة الجمهورية .
ويمكن أن نلمس غياب الإعداد و تهيئة أرضية المبادرة من ردود فعل مختلف الأطراف، الّتي لم تعتبر المحادثات الثنائية العامة مع رئيس الجمهورية وجلسات سماعه لهم، غير مندرجة في التشاور معهم حول المبادرة ذاتها، في حين أكّد رئيس الجمهورية أن مبادرة حكومة وحدة وطنية مطلب لعديد الأطراف.
وفضلا عن ذلك فإنه رغم شمولية الحوارالتلفزي مع رئيس الجمهورية وتناوله لأغلب نقاط الإستفهام، فإن مسألة ضرورة تشريك الإتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية في هذه الحكومة بمعية أحزاب الإئتلاف الحاكم وكفاءات مستقلّة، بقيت ضبابية أو أرادها رئيس الجمهورية أن تكون كذلك. فالمشاركة في تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تعني
بالضرورة أن يكون للمنظمتين، ممثلون مباشرون في الحكومة، بل أن ذلك يعني أن يشاركون في إقتراح أسماء لحاملي الحقائب الوزارية، كما كان الحال بخصوص تشكيل الحكومة المؤقتة التي ترأسها مهدي جمعة، ويشاركوا كذلك في تنقية المناخ الإجتماعي وقبول «هدنة» إجتماعية.
و بخصوص ردود فعل الأحزاب المشاركة في السلطة، فإن المواقف لم تكن رافضة للفكرة ، ولكنها فتحت الباب أمام تخمينات جديدة أصبحت فيها مسألة توزيع المواقع هاجسا يؤرّق كل الأطراف و خاصّة في حزب نداء تونس بحكم أن معادلة «مشكي وعاود» تدغدغ طموحات الجميع وتغذّي أحلام الكثيرين الّذين يطمحون إلى حيازة موقع حكومي.
أمّا بخصوص السيد الحبيب الصيد، الذي كان يبدو ثابتا في موقعه، فقد أصبح مرشحا للرحيل، ولكنه وإن بدا غير مستوعب لما حصل فجأة فإنه لازم إنضباطه الإداري في إنتظار لقائه الأسبوعي غدا مع رئيس الجمهورية ، الّذي سيلقي مزيدا من الضوء على الخطّة التي ستصاحب مسار المبادرة.
ولكن الإتفاق على تكريس المبادرة وتنفيذها سيجعل السيد الحبيب الصيد يقدّم إستقالته إلى رئيس الجمهورية الذي يعلم بها رئيس مجلس نواب الشعب، وتعدّ هذه الإستقالة استقالة للحكومة بكاملها، ما لم تحصل تطورات غير متوقعة في التعامل القانوني مع المستجدات.
ومهما يكن من أمر فإن العبرة ليست في خلط الأوراق وإعادة توزيعها مع إجراء تعديلات جزئية لإمتصاص غضب المعارضين وخلق جو من الإنفراج الوقتي، ولكن ما تقتضيه المرحلة المقبلة ، بعد الإبتعاد عن تحميل مسؤولية الوضع الحالي للحبيب الصيد، هو إحداث تحوّل نوعي في مقاربة سياسية للحكومة المنتظر تشكيلها (مهما كانت تسميتها وتوصيفها) بدءا من الإقلاع عن رفع الشعارات الفضفاضة، والإسراع بإعادة هيكلة بعض الوزارات وبتركيز الآليات البسيطة والناجعة التي تنعش الإقتصاد و تحرك دواليب الإستثمار والتنمية وتخلص العمل الإداري من عوائق عمله العادي والإقلاع عن الترضيات والولاءات وتقاسم النفوذ وعدم التعويل على الانتهازيين ورد الإعتبار لسلطة الدولة وهيبتها.