مع فارق هام وأساسي وهو أننا كنا حينها في مرحلة نمو اقتصادي قوي إلى حدّ ما بينما تصاحب التضخم اليوم حالة من شبه الركود ومن النمو الهش لاقتصاد البلاد.
يشهد التضخم وتيرة تصاعدية مخيفة منذ مارس 2021 حيث نزل آنذاك دون %5 (%4.8 تحديدا) ليرتفع بعدها دون هوادة وليقترب بصفة حثيثة من الرقمين .
غني عن القول بأن الإحساس بالتضخم يختلف من شريحة اجتماعية إلى أخرى وهو اليوم أقوى بكثير عند الفئات الفقيرة والمهمشة والشعبية لأنه أرفع من المعدل الوطني في المجالات الحياتية الأساسية:
• %11.9 للتغذية والمشروبات
• %10.2 الملابس والأحذية
• %11.3 الأثاث والتجهيز المنزلي
• %10.0 التعليم
صحيح أن التضخم ارتفع في جل دول العالم بفعل مخلفات الحرب الروسية في أوكرانيا وتأثيرها على أسعار المحروقات والحبوب ولكن هذا التأثير محدود إلى حد ما في تونس لان سياسة دعم هذه المواد تقلص كثيرا من نتائجه المباشرة ولكن بما أن اقتصاد البلاد مفتوح وبما أن التوريد عنصر هام في جل قطاعات الإنتاج بما في ذلك الفلاحية فإننا قد استوردنا فعليا جزءا من نتائج غلاء الأسعار العالمي .
ارتفاع أسعار الغذاء والملابس والتعليم في تونس يجعلنا نقف عند حقيقة أساسية وهي ارتباطنا الكبير بالسوق العالمية في كل شيء بما في ذلك ما تنتجه فلاحتنا فوق أراضينا لأننا نستورد البذور والأسمدة والأدوية والآلات الفلاحية، ولئن تلجأ الدولة التونسية إلى التحكم في بعض الأسعار عبر آلية الدعم أو التسعير الإداري الا أنها لا تستطيع التحكم في أسعار كامل مراحل منظومتي الإنتاج والتوزيع، بداية لأنها لا تملك الموارد المالية لذلك ونهاية لأنها قد تقضي على ما تبقى من منظوماتنا الغذائية والصناعية لو أرادت أن تحمل المنتجين لوحدهم كل تداعيات ارتفاع كلفة الإنتاج ..
ثم إن الدوامة التضخمية ستزداد ارتفاعا عندما ستشرع الحكومة في تنفيذ برنامجها الذي تريد التوافق حوله مع صندوق النقد والقاضي منذ البداية بسلوك سياسية حقيقة الأسعار في المحروقات والطاقة والمواد الأساسية على امتداد السنوات القليلة القادمة وهذا يعني ارتفاعا عاما لا فقط في هذه الأسعار مباشرة بل في كل ما ينتج محليا وفي خدمات النقل وما يتبع ذلك من سائر أسعار الخدمات أيضا .. ولا تملك الحكومة –على الأرجح –خيارات أخرى على المديين القصير والمتوسط.
التضخم لا يضرب القدرة الشرائية لكل شرائح المجتمع في مقتل بل فقط لديه انعكاسات خطيرة للغاية على كل إمكانية جدية للنمو الاقتصادي إذ سينجم عنه حتما (في الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة) ترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية للبنك المركزي (%7 حاليا ) وتباعا في نسبة الفائدة في السوق النقدية (%7.04 حاليا) أي كلفة إضافية بالنسبة للقروض الشخصية (قروض الاستهلاك وقروض السيارة والمنزل ..) كذلك للمؤسسة الاقتصادية التي ستزداد كلفة التمويل عندها دون ان يرافق ذلك نمو في سوقها .
ولكن يبقى الأخطر، والاهم أيضا بالنسبة للمؤسسة الاقتصادية غياب الوضوح وضبابية الرؤيا بما يعسّر عليها القدرة على التخطيط والاستباق .
نكررها للمرة الألف: لا يكمن الإشكال في وجود صعوبات ظرفية أو هيكلية تمس مختلف جوانب اقتصاد البلاد .. الإشكال في ضعف الحوكمة وغياب الرؤية وضبابية المستقبل..فالأزمة قد تصبح فرصة لو توفرت الحوكمة الرشيدة والاستباقية ولكنها قد تصبح كارثة لو انتهجنا سياسة النعامة والخوف من اتخاذ الإجراءات الشجاعة في الإبان ..
أزمة تونس هي أزمة رؤية وفكر في كل المجالات أولا وثانيا وأخيرا.