أزمة تزويد السوق التونسية بمواد وبضائع أساسية: روايات السلطة تسقط كقطع «الدومينو»

منذ اشهر عدة كانت الاصوات تتعالى للتحذير من التداعيات المحتملة لانكار السلطة التنفيذية لوجود ازمات هيكلية معقدة اصابت كل المنظومات الاقتصادية

وجعلتها كقطع «الدومينو» منتصبة فوق قنابل موقوتة اذا انفجرت احداها ستكون فاتحة لبداية سقوط كل القطع. لكن السلطة التنفيذية اختارت ان تصّم آذانها عن التحذيرات وان تقدم معطيات وارقاما ظنّت انها ستطمئن الشارع التونسي وتؤمنه على قوته ومعاشه اليومي. وانتهجت من اجل هذا سياسة انكار الازمة واعادة تصريفها في خطاب يفسر كل تعثرات تزويد السوق التونسية بمواد اساسية او استهلاكية بانها «مؤامرة» تستهدف الشعب لتحول بينه وبين «تصحيح مسار ثورته».

وكانت خطة السلطة تقوم على انكار وجود الازمة اولا ولاحقا على اعادة توجيه الازمة وجعلها مفتعلة نتيجة مؤامرات داخلية او خارجية، وثالثا على تسويق خطاب مغاير للواقع يبشر التونسيين بان كل السلع الاساسية والرئيسية متوفرة وان الدولة عملت على ضمان سلاسة تزويد السوق بها.
خطاب استمع اليه التونسيون طوال الاسبوع الجاري، ففي جل لقاءات الرئيس التي عقدت هذا الاسبوع كان ملف تزويد السوق بالسلع والمواد الاساسية حاضرا في «تعليماته» لاعضاء حكومته ولرئيستها نجلاء بودن، فكل من التقى مع الرئيس استمع الى تفسيره لسبب نقص بعض السلع والمواد من السوق والتي تختزل في ان «مخازن المحتكرين والمضاربين» ممتلئة بالمواد والسلع وان شحها من السوق «مفتعل» لخلق ازمة وللتنكيل بالشعب..الخ.

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

هذا الخطاب وجد في صمت رئيسة الحكومة وأعضائها - الذين يفترض ان لديهم كل المعطيات الاحصائية الدقيقة عن حجم السلع والمواد الاساسية سواء التي تتداول في الاسواق او التي خزنت في مخازن مرخصة او في مخازن الدولة ودواوينها- مما يعزز مصداقيته طالما ان الجهاز التنفيذي للدولة لم يقدم اي تفسير بديل لما تقدم به الرئيس من شرح لاسباب شح المواد والسلع وذلك يقره ويؤكده.

هنا بات الخطاب السياسي هو المهين على الدولة وجهازها مما ورط الاخيرة في تقديم معطيات غير دقيقة ومنقوصة كانت بمثابة القنبلة التي تجلس فوقها وتامل ان لا تنفجر، ولكن امالها ذرتها الرياح، لتنطلق سلسلة الانفجارات. او هذا هو الوصف الاقرب لتقديم صورة لما باتت عليه الامور اليوم في تونس اذ ان السلطة التنفيذية والإدارة التونسية اللتين قدمتا تفسيرا لشح المواد بان بعض المحتكرين وبعض المتآمرين عمدوا الى تقليص حجم المواد والبضائع المعروضة في السوق اما لتحقيق ربح مالي او غايات سياسية. تعمدت ان تخفي الحقائق على التونسيين وان توجه انظارهم الى خصوم غير موجودين على امل ان تنجح في معالجة الازمة قبل احتدامها.

خيار كان بمثابة الجلوس على قنبلة اذا نظرنا الى وضع المالية العمومية المتأزم، ولكن السلطة التنفيذية تمسكت به وحافظت عليه على امل ان تتمكن من النجاح فتنزع فتيل القنبلة. لكنها للأسف عجزت عن ذلك وبات لزاما عليها تحمل مسؤولية الازمة التي انفجرت امامها وأمام أعين الملإ.
ازمة «السكر» تفسّر بان المتآمرين والمضاربين او التحالف بينهما هو سبب نقص مادة السكر في السوق وندرته وان الاستنجاد بالقانون سيمكن الدولة من ضمان توفر هذه المادة كغيرها في السوق بوفرة وينهى الازمة. لكن يوم امس اطلت الحقيقة برأسها رغم محاولة طمسها.
حقيقة عبر عنها اعلان شركتين لإنتاج المشروبات الغازية عن ايقاف عمليات الانتاج والتصنيع بسبب عدم توفر مادة السكر لديهما. شركتان ليستا وحدهما اللتين اضطرتا إلى ايقاف نشاطيهما لعدم توفر مادة اساسية بل غيرهما كثيرون ويشمل قطاعات اخرى منها قطاع الصناعات الغذائية والحلويات بعد استنزاف مخزونها من السكر ورفض ديوان التجارة تزويدها بحصصها المعتادة من المادة لذلك وجدت نفسها اليوم امام حتمية ايقاف النشاط.

وضعية كانت تتخفى بين ثنايا السيطرة النسبية على الازمة، اذ طوال الاشهر والأسابيع الفارطة، اتفقت الشركات والمصانع مع ديوان التجارة على تقليص حصصها من مادة السكر او المواد الاخرى التي يحتكر ديوان التجارة عملية استيرادها وتحديد حصص المصنعين او شركات التعبئة والتعليب. في انتظار ان تعالج الازمة خلال ايام واسابيع يبدو انها طالت وانتهت الى ان يعتذر ديوان التجارة عن تزويد المصنعين بمادة السكر.

اعتذار يتزامن مع تاكيد الديوان بانه في طور استكمال عملية استيراد شحنة من السكر ينتظر ان تصل الى تونس في 17 سبتمبر القادم، ستضخ في السوق، وهو ما يعنى ان مخازن ديوان التجارة اليوم خاوية او شبه خاوية من هذه المادة التي يبدو في حالة توفرها انها ستكون موجهة للاستهلاك المنزلي لتجنب هزات اجتماعية.

بعبارات ادق وأكثر وضوحا. لجوء مصانع المشروبات الغازية ومصانع الحلويات والبسكويت الى ايقاف النشاط بسبب عدم توفر مادة السكر ينسف كليا خطاب السلطة ويضعها امام تناقضاتها. فالنقص اليوم في المادة لم تتسبب فيه عمليات الاحتكار او المضاربة.
فالمصنعون لم يحصلوا على حصصهم بشكل مباشر من الديوان بسبب عدم قدرة الديوان على تامين عملية تزويد السوق التونسية بمادة السكر او بغيرها من المواد، وهذا ما يبينه امتناع الديوان عن تزويد المصنعين بالمادة وتعهده لهم بتوفير حصصهم من المادة في سبتمبر القادم تاريخ وصول شحنة من السكر او قبل ذلك اذا وصلت الشحنة القادمة من الجزائر.

وفي انتظار ذلك يتوقف النشاط على امل ان يلتزم الديوان بتعهده وهذا بدوره مناط بتوفر السيولة النقدية لديه للإيفاء بالتزاماته مع مزوديه وهذه ايضا قنبلة اخرى تجلس فوقها السلطة التنفيذية وتحاول ان تخفيها ولكن دخانها تصاعد معلنا عن قرب سماع دوي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115