وبدأت تتوضح الخطة الحكومية في تغيير منظومة الدعم: ثلث يتمتع بالدعم وثلث عليه إثبات استحقاقه له وثلث يرفع عنه كلية !

تعد منظومة الدعم (دعم بعض المواد الغذائية والطاقية) من أدق وأخطر المنظومات في الدول التي يعاني جزء هام من سكانها أشكالا مختلفة من الفقر:

من الفقر المدقع إلى الفقر، إلى الفقر متعدد الأبعاد.. وقد وضعت دول عديدة - بما فيها بعض الدول الثرية والمتقدمة جدّا -منظومات مختلفة لدعم هذه الفئات الهشة إما بتوجيه تحويلات مالية مباشرة أو بدعم بعض المواد الاساسية او باللجوء الى السياستين معا.
تونس - كدول كثيرة في العالم - عمدت إلى هاتين السياستين معا: دعم مباشر كالتحويلات المالية للعائلات المعوزة ودعم للبضائع (المواد الأساسية والمواد الطاقية) وللخدمات (النقل العمومي أساسا) هذا دون الحديث عن مجانية التعليم والمجانية النسبية للصحة والتي لا تدخل عادة في خانة الدعم وإن كانت تنتمي الى روح الدعم.

لا يجادل أحد في أن حجم الدعم هذا ما فتئ يتعاظم لأنه أصبح هيكليا ولأن دولا عديدة – كبلادنا - لم تتمكن من الحدّ بصفة جوهرية من مستويات الفقر كما لا ينبغي أن نهمل عنصرا آخر وهو الميزة التفاضلية اقتصاديا للدعم اذ يسمح بأجور زهيدة ممّا جلب لبلادنا في العقود الفارطة استثمارات أجنبية مباشرة مهمة.
ولكن منذ ثلاثة عقود على الأقل أظهرت منظومة الدعم حدودها وخاصة عدم قدرتها على محاربة جدية للفقر والتهميش فتحولت من حلّ وقتي يعدل من اضطرابات الأسعار العالمية الى حلّ دائم يرافق الفقر ويحدّ جزئيا من آثاره دون القدرة على معالجته.
ومنذ تلك الفترة ونحن نستمع إلى ضرورة إصلاح منظومة الدعم بمعنى رفعها التدريجي وتوجيه أموال الدعم إلى الاستثمار أي الى خلق فرص العمل والحدّ الاقتصادي الفعلي من الفقر.

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د


نعلم جميعا أنّ كل توصيات صندوق الدعم للدول التي تلجأ إليه بحكم تفاقم مديونيتها أن يتم إصلاح الدعم أي عدم توجيهه إلى كل السكان بل فقط إلى الشرائح الأكثر فقرا وهشاشة فقط.
تشتغل حكومة بودن في إطار البرنامج الذي تعده لصندوق النقد على مراجعة جذرية لمنظومة الدعم تقوم على فكرة دعم العائلات بتحويلات مالية بدلا من دعم البضائع والخدمات لكل المستهلكين من مواطنين وأجانب.

مشروع الحكومة والذي أفصح عنه وزير الشؤون الاجتماعية يتمثل في تقسيم العائلات التونسية الى ثلاثة اقسام تكاد تكون متساوية:

• ثلث التونسيين (العائلات المعوزة والمحدودة الدخل) سيتمتعون بتحويلات مالية تساوي الفارق بين الاسعار الحالية للمواد المدعومة وأسعارها بعد الرفع التدريجي للدعم وستكون هذه التحويلات وفق عدد أفراد العائلة ونحن نتحدث هنا عن حوالي أربعة ملايين تونسي.

• الثلث الآخر سيتمتع بدوره بالدعم شرط التثبت من حقيقة مداخيل هذه العائلات وجدارتها بالدعم، والحكومة تقول ان هذا الثلث يتشكل من الطبقة الوسطى ولكن الحقيقة غير هذا فهذا الثلث يتشكل أساسا من العائلات التي تعيش حالات متنوعة من التهميش ويكفي هنا أن نعود الى الدراسة الدورية التي يقوم بها المعهد الوطني للإحصاء حول استهلاك الأسر ومستوى عيشها منذ بعض السنوات أن 85% من الأسر لها مدخول شهري دون 1500دينارا فلو أخذنا 70% من مجموع العائلات التي يتحدث عنها وزير الشؤون الاجتماعية لكنّا دون هذا المستوى أي انه وعلى الأقصى لا توجد ضمن هذا الثلث الثاني سوى قلّة قليلة من الفئات الوسطى.

• الثلث الأخير ( 30% حسب وزير الشؤون الاجتماعية) سوف يرفع عنه الدعم كلية أي أن حوالي مليون عائلة أو اربعة ملايين فرد سيعرفون تراجعا هاما في قدرتهم الشرائية يعادل حوالي 10% بالنسبة لغالبية هذه الشريحة.
ينبغي أن نعلم أن ما يسمى بالطبقة المرفهة (ولا نقول الغنية) تمثل دون 10% من السكان، إذن غالبية هذا الثلث الأخير هو من الطبقة الوسطى والتي تدهورت قدرتها الشرائية بصفة هامة في هذه السنوات الاخيرة..
ثمّ هنالك مسألة أخرى أساسية وهي أن الرفع التدريجي للدعم في المواد الأساسية والمحروقات سوف ينتج عنه ضرورة تضخم مرتفع وبالتالي غلاء في بقية الأسعار مما سيجعل هذه التحويلات غير كافية بالمرة للحدّ الإجمالي من كلفة ارتفاع الأسعار.

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د


كل هذا دون الحديث عن الصعوبة الكبرى لتحديد حقيقة مداخيل حوالي نصف التونسيين الذين يعيشون كليا أو جزئيا من مداخيل الاقتصاد الموازي.

والإشكال الأكبر في كل هذا أن الحكومة تشتغل بمفردها ودون أية تشاركية ولو في حدودها الدنيا والحال أن هذا التغيير الجذري لمنظومة الدعم يهم جموع التونسيين وهذا النهج الانفرادي لن يحقق مطلقا المقبولية الاجتماعية الضرورية لمثل هذه الإصلاحات..
ثم أيّ الحلول أفضل لمعالجة مشكلة الدّعم؟ وكيف نجعل من الحدّ الفعلي للفقر والهشاشة بوصلة كل سياساتنا الاقتصادية والاجتماعية؟.

بعد أشهر قليلة سيجد التونسيون أنفسهم أمام تحول جذري في سياسة الدعم وفي حرية الأسعار دون حوار فعلي (الأشهر المتبقية من هذه السنة غير كافية لحوار جدي) ودون التفكير في الاستتباعات المعقّدة لهذه الزيادات على القدرة الشرائية الفعلية للمواطنين وعلى القدرة التنافسية لكل الأنشطة الاقتصادية..
وتتواصل سياسة المرور بقوّة والانفراد بالرأي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115