في التاريخ وكيف أن هذا الشعب ما فتئ يبهر العالم من 17 ديسمبر 2010 إلى 25 جويلية 2022 وأن ما حصل سيدرس في كتب التاريخ رغم كيد الكائدين الذين حاولوا إفشال المسار في كل محطاته وأننا الآن سندخل مرحلة السياسات الجديدة ..
بعيدا عن السردية الرئاسية التي أضحت معلومة الآن في خطوطها العريضة إلى درجة يغيب فيها عنصر المفاجأة بصفة كلية.. بعيدا عن هذه السردية ما الذي سيحصل اليوم في تونس بعد ختم رئيس الدولة للدستور الجديد ؟
على المدى القصير رئيس الدولة اليوم في طريق سيارة فهو بصدد فرض مشروعه على الجميع بمن في ذلك كل رفاق طريق 25 جويلية إذ لا أحد يظهر معه في الصورة ولا أحد يستفيد معنويا من المحطات السابقة أو اللاحقة ..
في الأيام أو الأسابيع القادمة سيصدر مرسوم/قانون الانتخابات وسيتم أيضا إرساء المحكمة الدستورية ولا أحد يتخيل إمكانية «تسرب» معارضي مشروع الرئيس لا إلى البرلمان القادم ولا إلى المحكمة الدستورية فالأقرب أن القانون الانتخابي سيقصيهم بصفة واضحة ممّا سيدفع جلّهم إلى مقاطعة الانتخابات ويُيسّر صعود أفراد موالين كلية لمشروع الرئيس ..
إذن لن تنتهي هذه السنة إلا وقد أحكم الرئيس قبضته على السلطة ومؤسساتها دون قدرة معارضيه على تعطيل فعلي لهذا المسار ،وسوف يتعامل الخارج من حكومات وجهات مانحة مع السلطة الجديدة كأمر واقع بل وشرعي وكمفاوض رسمي لرسم سياسات التعاون والشراكة ورغم أن هذه الجهات ستسعى أيضا للتعامل مع المجتمع المدني بكل تشكيلاته إلا أن هذا لن يغير شيئا يذكر من موازين القوى على الأرض علاوة على الوصم الذي سيتزايد تحت شعار «التعامل مع الأجنبي» باعتباره رديفا للخيانة الوطنية .
قد يكون اتحاد الشغل القوة الوحيدة القادرة على تعكير صفو هذا «الصعود الشاهق» ولكننا لا نعتقد أن الاتحاد سيلجأ إلى الحلول القصووية بصفة دائمة ومستمرة بل سيسعى إلى التمترس في مربعه الاجتماعي مع توسيع دائرة تحالفاته وإبداء رأيه بقوة في السياسات العامة ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية ..
ولكن يخطئ من يعتقد أن هذه الطريق السيارة البادية للعيان سالكة دون مخاطر أو منعرجات إذ أن الأساسي في الحكم ليس ذلك السجال النظري حول «الشرعية والمشروعية» و«الثورة في إطار الشرعية» الأساسي بالنسبة لعموم الناس هو شرعية الإنجاز وقدرة السلطة على المسك بأوضاع البلاد وخاصة تحسينها اقتصاديا واجتماعيا.
هنا يجد مشروع قيس سعيد نفسه أمام تناقضاته الداخلية العميقة فالسلطة عنده وسيلة لا للرفع من المستوى الاقتصادي العام بل لتغيير هام في علاقات الإنتاج دون أن تكون له أدوات وإيديولوجيا الحركات الاشتراكية بل فقط بالصلح الجزائي وبالشركات الأهلية أي بذلك الحلم الطوباوي بتحويل أموال الأغنياء (الصلح الجزائي ) إلى نوع من التعاضديات التي لا تفصح عن اسمها ..
وهنا لا نصطدم فقط بالطوباوية بل وأيضا بغياب أية رؤية واقعية لتسيير الشأن العام فينتج عن ذلك خطاب معاد للأغنياء في ظاهره مع سياسات حكومية تقشفية منسجمة تماما مع التوصيات التقليدية لصندوق النقد الدولي..
خلال حوالي 13 شهرا لم يجد قيس سعيد حلا لهذه المعضلة وذلك لسبب بسيط : تونس ليست دولة نفطية ولا تملك ثروات طبيعية هائلة تجعلها في عنى عن الشركات الأجنبية وخاصة عن الاقتراض والتداين. والمؤشرات الأولى للنمو وللعجز التجاري تؤكد أن السلطة الحالية لا تملك – الى حد اليوم – حلولا جدية للتحكم في تردي الأوضاع فما بالك بإصلاحها أو بتغيير وجهتها نحو الأفضل ..
لن يكون بإمكان قيس سعيد تحميل سوء الأوضاع الحالية للعشرية أو للعشريات السابقة فالماسك الكلي بكل السلطات لا يمكن له أن يتفصى من كل المسؤوليات الى ما لا نهاية له .
الخبز الأبيض وراء قيس سعيد وكما قاد المرحلة السابقة بمفرده أو ما سيعمل عليه خلال الأشهر القادمة لاستكمال السيطرة على كل مؤسسات الدولة فانه سيجد نفسه فريدا أيضا أمام الصعوبات ولن تكون له الأزرار الكافية لتحويل مستمر لوجهة الغضب .
قيس سعيد في طريق سيارة اليوم ولكنها قد تتحول بعد آن إلى طريق مسدودة وستكون البلاد مجددا في وضع سيزيف دون أية قدرة على البناء والمراكمة .