تصعيد وزارة العدل ورفضها لقرار المحكمة الإدارية : الدولة تأكل نفسها

يبدو ان بلاغ وزارة العدل المؤرخ في 14 أوت 2022 سيكون حدثا مرجعيا في تاريخ تونس بعد سنوات - فعلى الرغم من أنه بلاغ مقتضب

لا يتجاوز السطرين إلا انه من ضمن الأحداث القليلة التي ستحدد الطريق الذي ستسلكه البلاد.
بلاغ وزراة العدل الذي ينظر اليه على انه اعاد ملف القضاة المعزولين الى نقطة الصفر رغم صدور حكم من المحكمة الإدارية يقضي بإيقاف اعفائهم الصادر في 1 جوان 2022 يحمل في ثنياه ما يتجاوز الاعلان عن رفض القرار او التمسك بخيار التصعيد في ادارة ملف القضاء.
فوزارة العدل التي اختارت ان تعلن عن ان القضاة الذين صدر لفائدتهم حكم من المحكمة الادارية منذ اسبوع هم محل «اجراءات تتبع جزائي» اعلنت دون قصد او دون وعي عن دخول تونس الى مربع جديد في التعامل مع مفهوم الدولة والحكم بصفة عامة.
فملف القضاء وكيفية ادارته من قبل السلطة التنفيذية التي تمثلها اليوم وزارة العدل لا تقتصر تداعياته على سير المرفق القضائي ولا على المتداخلين فيه. ولا يتعلق جوهره بالقضاء وحده. حتى وان كان مستواه الاول يوحي بذلك. بل هو يتجاوز ذلك ليقدم لنا كيفية تفاعل عقل السلطة التنفيذية مع الدولة وكيفية رؤيتها للأشياء او في ما ترغب في ان تكون عليه.

فرفض وزارة العدل اليوم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية واختيار نهج التصعيد في ادارة ملف القضاة المعفيين وتغيير اقفال مكاتبهم او اصدارها لمنشور وجه لرؤساء المحاكم بعدم السماح للقضاة المعفيين بالدخول الى مقرات عملهم، لا يقف اثره عند ما تصفه تنسيقية الهياكل القضائية بـالتملص من تنفيذ احكام او محاولة تمديد الازمة او الإنحرف بالسلطة بل يتجاوز ذلك بكثير للأسف.

فرفض وزارة الاشراف تنفيذ حكم قضائي يخشى ان يكون فاتحة لسلوكيات وممارسات من السلطة التنفيذية تفيد بأنها تختزل الدولة في كينونتها، اي ان تصبح الدولة هي السلطة التنفيذية رئاسة وحكومة، والحال ان الدولة الحديثة التي صيغت مفاهيمها وتطورت خلال الـ300 سنة الاخيرة قامت على التمييز بين الدولة والسلطة التنفيذية رئاسة وحكومة.

فالدولة الحديثة كيان ومفهوم اوسع واشمل من السلطة التنفيذية، اذ هي كيان شامل يتضمن جميع مؤسسات المجال العام اي كل السلط والاجهزة التي تشرف على ادارة الفضاء العام ويقع الاحتكام اليها لفض النزاعات او الصراعات وهي كيان اكثر ديمومة من جهازها التنفيذي المتمثل في السلطة التنفيذية.
فما اقدمت عليه وزارة العدل من رفض لاحترام قرار المحكمة الادارية بصفتها احدى مؤسسات الدولة وأجهزتها التحيكمية ليس مجرد تصعيد في ادرة الملف بل هو بداية تنزيل لمقاربة السلطة والوظيفة التي تضمنها دستور 2022 القائم على اختزال السلطة في السلطة التنفيذية فقط واعتبار بقية السلط مجرد وظائف :وظيفة قضائية ووظيفة تشريعية. وهي مقاربة تختزل الدولة في السلطة التنفيذية اي في من يحكم.

فرفض السلطة التنفيذية، التي تتمثل هنا في وزارة العدل، لحكم قضائي صريح وواضح واختيار المخاتلة والمغالبة في تنزيل ارادتها لا تقف تداعياته على اطالة امد الازمة في المرفق القضائي وانتقالها منه الى المشهد السياسي بل تتمدد لتعلن عن دخول الدولة التونسية الى مربع التفكك الذي يتجسد في ضرب كل اجهزة الدولة وسلبها لأدوارها وللسلطة التي فوضت لها لتكون جزءا من ادارة الفضاء والشان العام، وتعلن عن بداية مسار ينتهى بان تكون الدولة هي الرئيس/الحكومة ودونهما لا شيء يقف ليكبح تغول السلطة التنفيذية .
تغول لن تقتصر آثاره على العودة بتونس إلى ما قبل الثورة ودولة الاستقلال وما قبل تشكل مفهوم توزيع السلطات وتوازنها بل سيطال آجلا ام عاجلا المجتمع في بنيته وفي علاقته بالدولة واستبطانه لحاجته إليها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115