ما لم يكن يعلمه حكام البلاد هو أن تجميع السلطات في يد واحدة لا يخلق استقرارا بالمرة حتى وإن كان يوحي بعكس ذلك من قطيعة مع مظاهر تذرر الحكم وصراع أجنحة السلطة .
ولعلّ ذلك يعود إلى توهم الحكام الحاليين والسابقين أن للسلطة السياسية مفعول سحري على بقية نشاطات المجتمع ،لكن اليوم وبعد حوالي 13 شهر ا من حكم الفرد ومن اختزال كل الوقت الذي كان ضروريا للتداول الديمقراطي رغم شكليته في جلّ الأحيان ، تبين أن أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية لم تتقدم قيد أنملة وأن حوكمة الشأن العام متخبطة وأن الطريق الواحد للإصلاح الذي اهتدت إليه حكومة بودن لا يتجاوز جملة من الإجراءات التقشفية مع عجز تام عن بداية تطبيقها العملي إلى حد الآن ..
سياسيا يبقى المشهد ضبابيا إلى أقصى حدّ رغم البوادر الإيجابية في نية الحوار الاجتماعي بين الحكومة واتحاد الشغل واتحاد الأعراف مع ذلك نبقى أمام سلطة منغلقة على نفسها لا تحاور إلا ظلها مع تكاثر المظاهر المرتبطة ضرورة بالحكم الفردي : ظهور للعائلة وتخبط في ملفات أساسية كمسألة القضاة الذين تم إعفاؤهم ثم نقض هذا الإعفاء من قبل المحكمة الإدارية فتشبث وزارة العدل الضمني بقرار الإعفاء مع إجراءات قديمة / جديدة كتغيير أقفال مكاتب القضاة الذين أنصفتهم المحكمة الإدارية بما يفيد أننا أمام صنف جديد من صراع الأجنحة ومراكز النفوذ داخل أروقة الحكم إذ لا يشك أحد في أن قرار المحكمة الإدارية كان بنوع من المباركة الرئاسية وان ردة فعل وزارة العدل قد حظي بنوع من المباركة أيضا، وما يفسر هذا التناقض البادي للعيان اعتماد وزيرة العدل على شبكة من العلاقات التي دعمت موقعها بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من الخروج من الباب الصغير ..ولكن في الأثناء تُضرب فكرة دولة القانون في مقتل ..
اقتصاديا مازلنا نعاني من النمو الهش وأرقام الثلاثي الثاني جاءت لتدعم هذا المنحى بـ%2.8 باحتساب الانزلاق السنوي وبنمو سلبي (%1-) مقارنة بالثلاثي الأول لهذه السنة بما سيجعل هذه السنة دون %2.5 على الأرجح أي أن الناتج المحلي الإجمالي بالأرقام القارة لم يعد بعد إلى مستوى سنة 2019 ومع ذلك نرى انزلاقا خطيرا في العجز التجاري يناهز 14 مليار دينار في سبعة أشهر فقط ..وفي هذا دليل إضافي على أن الإرادوية السياسية الفاقدة لمشروع إصلاحي حقيقي لا يمكن لها إلا أن تساير الموجود دون قدرة على تغييره نحو الأفضل ..
نحن اليوم على بعد أربعة أشهر فقط من موعد الانتخابات التشريعية القادمة ولكن هنا الضباب كثيف للغاية والرمال المتحركة تشتغل بأقصى طاقة ..
نحن لا نعلم إلى حد الآن وفق أي قانون ستجرى هذه الانتخابات وآي دور للأحزاب السياسية فيها ومن سيقاطع ومن سيشارك، ثم ماهي الصلاحيات الفعلية للبرلمان القادم خاصة في علاقته بمجلس الأقاليم والجهات،إذ هما يشتركان في الوظيفة التشريعية ولكننا لا نعلم – إلى حدّ الآن – حدود صلاحيات كل مجلس منهما في انتظار صدور المرسوم /القانون الأساسي لهذا المجلس الجديد..
صحيح أن نسبة هامة من التونسيين مازالت لا تحمل ساكن قرطاج إخفاقات هذه المرحلة الجديدة و مازالت تحمل المسؤولية للوبيات الفساد السياسي والمالي ..ولكن حبل «تركة الماضي» قصير بطبعه بمرور الزمن خاصة وأن كل المؤشرات تفيد بأن السنة القادمة ستكون أسوأ بكثير من السنة الحالية اقتصاديا واجتماعيا .
لا يمكن لبلد أن ينشد الاستقرار الفعلي بمثل هذا الكم الهائل من الرمال المتحركة خاصة وأن السلطة الجديدة لا تمنح لنا أفقا واضحا ومعقولا ومقبولا للخروج من كل هذه الأزمات المتفاقمة .
قديما قال امرؤ القيس عندما بلغه نبا وفاة أبيه «اليوم خمر وغدا أمر» ولكن المثل الشعبي التونسي يقول «طارت السكرة وحضروا المداينية» .