والمتعلق بالتدقيق في الهبات والقروض التي حصلت عليها الدولة التونسية ومنشآتها العمومية خلال العشرية الماضية ..
لقد طالب رئيس الدولة بهذا التدقيق منذ الأيام الأولى للتدابير الاستثنائية وكلّف به وزيرة المالية سهام نمصية حتى قبل تشكل حكومة نجلاء بودن، والمبرر الأساسي الذي تم تقديمه آنذاك للقيام بهذا الجرد الشامل هو كشف مواطن الفساد وخاصة حجم القروض والهبات التي منحت لتونس وتمّ تحويل وجهتها من قبل حكومات ما بعد الثورة لحسابات خاصة وحرمت بالتالي منها البلاد أو تم إنفاقها في غير مصالح الدولة والبلاد .
لقد استغرق إعداد هذا التقرير حوالي السنة ولم يشمل فقط الهبات والقروض للدولة التونسية – كما كانت الفكرة الأصلية – بل وأيضا للمنشآت العمومية والهدف منه كما أسلفنا هو إظهار تلاعب حكومات ما بعد الثورة أو بعض المسؤولين فيها بالمال العام وتحويل جزء من هذه الأموال لفائدتهم الشخصية أو الحزبية .
إلى حدّ كتابة هذه الأسطر لم ينشر بعد هذا التقرير ولسنا ندري هل سينشر للعموم أم لا ،لذلك نحن لا نملك من المعلومات إلا تلك الإشارات التي وردت في بلاغ رئاسة الجمهورية والتي تفيد بأن هذا التقرير سمح بالوقوف على "عديد الاخلالات" التي كانت السبب في "تحمل ميزانية الدولة لفوائد وخسائر صرف دون موجب في عديد الحالات" .
لا يوجد إذن اختلاس أو تحويلات شخصية أو حزبية لهذه الأموال – وهي في حال حصولها جرائم خطيرة جدّا – فكل ما حصل ،حسب نص البيان الرئاسي،هو احتساب فوائد إضافية أو خسائر صرف ناجمة ضرورة عن تأخر إنجاز بعض المشاريع بما قد يفيد أن هذه الإخلالات الأساسية فد تعني القروض للمنشات العمومية ولا تتعلق – نظريا على الأقل – بقروض دعم الميزانية .
ماذا يعني كل هذا ؟
نحن أمام حدود الخطاب الطهوري الذي جاء ليضع حدّا لفساد وإفساد الجميع..حدود الخطاب الذي يعتقد إيمانا انه يمثل الخير المطلق وأن ما سواه شياطين تحتال على الناس وتمتص دماء الشعب المفقر ..
لا أحد يقول انه لا يوجد فساد في البلاد وأن ضعف الدولة قد أضر كثيرا بقدرتها على استيعاب التمويلات والاستثمارات الخارجية والداخلية على حدّ سواء ..ولكن بين هذا واعتقاد أن وزراء في العشرية السابقة أو في كامل فترة دولة الاستقلال قد حولوا تمويلات أجنبية لحسابهم الخاص كما كان يفعل ذلك بعضهم في القرن التاسع عشر ففي هذا قلة إدراك لآليات التصرف في الأموال العمومية في الدولة التونسية المستقلة إضافة إلى أنه اتهام مجاني لأشخاص قد تكون لدينا عليهم مآخذ كثيرة دون أن يبرر ذلك القدح في شرفهم أو اتهامهم بالاختلاس .
لقد سعى البعض كالسيد فريد بلحاج نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى إقناع رئيس الدولة أن مضان الفساد – وهي كثيرة – لا تحصل في مثل هذه العمليات والمسألة لا تعود لطهورية خاصة عند الحكام بالأمس أو اليوم بل لأن بروتوكولات إسناد الهبات أو القروض تمنع من التلاعب بها وتوجيهها لغير الإطار الذي انعقدت فيه،وهذا بالطبع لا يمنع سوء التصرف والحوكمة وسواء استعمال هذه التمويلات ولكننا هنا في خانة أخرى لا علاقة لها البتة باختلاس المال العام .
هنالك سؤال مشروع في بلادنا :
لقد اقترضت تونس من الخارج عشرات مليارات الدنانير خلال كامل سنوات ما بعد الثورة ووتيرة هذا الاقتراض في تزايد مستمر ولكننا لا نرى من نتائج خاصة لكل هذه القروض ..فأين ذهبت الأموال إذن ؟
السؤال مشروع ولكن الإجابة عنه سهلة وجل معطياتها متوفرة للجميع ..
خلال كل هذه السنوات –والى جانب حدود هذه السنة والتي ستليها حتما –تمثل الموارد الذاتية للدولة –جبائية وغير جبائية –بالكاد %70 من مجموع النفقات وهذا ما يدفع الحكومات المتعاقبة الى الاقتراض %30 من كامل احتياجاتها .
أين تذهب هذه الأموال ؟ إلى كل مجالات النفقات من أجور وتصرف ودعم وتدخلات اجتماعية كذلك خلاص خدمة الدين ،ولكن كل هذا لم يخلق النمو المرجو ولا يسمح بعجلة الاقتصاد بالانطلاق من عقالها .
نحن هنا أمام مشكلة عميقة وحقيقية : كيف نعيد للدولة فاعليتها وقدرتها على الإنجاز وللاقتصاد التونسي بكل قطاعاته الحيوية الدنيا لخلق الثروة ومواطن الشغل ؟وكيف نفعل كل هذا دون أن نغرق كاهلنا وكاهل الأجيال القادمة ؟
نحن أمام ازمة حوكمة الدولة بالأساس لا فقط الأخلاق الشخصية للحكام ..
الدولة تحتاج لاستعادة عقلانيتها .
تلك هي المعضلة