مشروع دستور «الجمهورية الجديدة مثله مثل كل نص - في نسختيه الأولى والمعدلة - يخضع لهذه الجدلية ولهذه القراءة التأويلية بين المقول واللامقول وبين المقصد والتمثل.
تحدثنا في الحلقة الأولى عن الأسس الفكرية العامة لهذا المشروع: (جريدة «المغرب» يوم السبت 2 جويلية) وتحدثنا في الحلقة الثانية حول مركزة السلطة والتحول الجوهري من وظيفة رئيس الدولة إلى سلطة دولة الرئيس (جريدة «المغرب» 7 جويلية 2022) أما في الحلقة الثالثة والأخيرة فسنسعى للوقوف على التصورات الضمنية للحريات ولحقوق الإنسان زمن البناء القاعدي المحافظ..
الصبغة المحافظة لا تكاد تخلو من كل أبواب الدستور وخاصة في التوطئة وفي البابين الأول (أحكام عامة) والثاني (الحقوق والحريات)..
جوهر الايغال في المحافظة يكمن ولاشك في الفصل الخامس من الدستور حتى بعد تعديله ولا يتعلق الاشكال أساسا بـ«مقاصد الإسلام» بل بالبيئة الايديولوجية التى جاءت فيها..
لقد تحدثنا باطناب في الحلقة الأولى عن مسألتي نفي وجود «الأمة التونسية» وربط مقاصد الإسلام بالخلفية الفقهية التقليدية، ونضيف هنا مسألة أساسية تتعلق بما يسمى بالفهم المقاصدي للإسلام..
ما يسمى عند الفقهاء القدامى بالشريعة أو بالأحكام الشرعية هي جملة أحكام الحلال والحرام والمباح في العبادات والمعاملات أي المجال الخبري لما كان يُعرف بالفقه. ثم عمل واضعو المدارس الفقهية الكبرى على وضع قواعد لاستنباط هذه الأحكام وهذا الفن أو العلم كما كان يقول القدامى هو «أصول الفقه» أي القواعد العامة لاستنباط الأحكام الفرعية ثم تطور فقه المعاملات، وهو الفقه الأكثر حركية لأنه ملتصق بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية في حياة الناس وتم التفكير حول الركائز الكبرى التي ينبغي أن تنضبط لها الأحكام الفرعية، فمثلا، هذه الكليات الخمس: حفظ العقل والدين والنفس والعرض والمال والتي نجدها كلها في نص مشروع الدستور مع استبدال العقل بالحرية. والأساسي هنا هو أن مقاصد الإسلام أو مقاصد الشريعة كما ستسمى لاحقا انما الهدف منها اضفاء التناسق على الأحكام الفرعية وايجاد قواعد ترجيحية تهدف كلها إلى التحقيق العملي للأحكام الشرعية. أي أن المقاصد هي مناط الشريعة وبالتالي لا تسمح البتة بالخروج من سطوتها إذ أن علة الأحكام الشرعية، عند أهل السنة، نقلية لا عقلية وحتى إن لم يوجد السند النقلي ( آية أو حديث أو أقوال مأثورة للصحابة) فالاستنباط يكون دوما لتحقيق العلّة النقلية إما بالقياس أو بغيره من تقنيات الاستدلال الشكلية.
في التاريخ القديم انتفض ضد نمط التفكير هذا فقيه سني واحد هو نجم الدين الطوفي الحنبلي من فقهاء، القرن الرابع عشر ميلادي حيث اعتبر في شرحه الشهير للحديث النبوي «لاضرر ولا ضرار» أن المصلحة هي القاعدة الأصلية في فقه المعاملات والمصلحة لا يُعرفها النقل بل العقل والعرف والعادة وإذا تعارض حكم نقلي مع مقتضيات المصلحة تقدم المصلحة العقلية على الحكم النقلي.. ولكن هذه الثورة الفكرية لم تخرج عن دائرة الاجتهاد، الفردي ولم تتمكن من التأثير ولو نسبيا على التراث الفقهي للقوى التي تلتها..
في المعاصرين قلة قليلة جدا من المثقفين العرب والمسلمين الذين اتبعوا نهجا يشبه إلى حدّ ما، نهج نجم الدين الطوفي ولعل أبرزهم في تونس المصلح الكبير الطاهر الحداد والذي أفرغ مفهوم مقاصد الإسلام من مضمونه الفقهي التقليدي وعوضه من خارج «أسوار» الشريعة بالقيم الكونية كالمساواة بين الجنسين مثلا والمقصد هنا أصبح غائية الحكم لا أساسه الذي ينبني عليه فغاية الإسلام من الزواج هي زواج رجل واحد بامرأة واحدة ولكن لما استحال تطبيق هذا زمن البعثة تم الحدّ من التعدد واليوم (أي منذ مائة سنة) عملا بالغائية المقاصدية يتم منع التعدد، وبنفس المنهج تلغى الأحكام التمييزية في الميراث وتحلّ المساواة محلها.. ولكن الغالبية الساحقة من فقهاء، وعلماء، المؤسسة الدينية الرسمية قاموا ضدّ هذا الاجتهاد ورموا أصحابه بالكفر والردة والعمالة للأجنبي.
فعلى عكس ما يروج له اليوم بعضهم من أن مشروع الدستور مثله مثل تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة قد تضمنا فكرة المقاصد وبالتالي فهما سيّان نقول أن النزاهة العلمية كانت تفترض الاعتراف بأن «مقاصد» لجنة الحقوق والحريات هي على خطى الطاهر الحداد تريد الخروج من بوتقة الأحكام الشرعية ولو كان ذلك باجتهاد يعتمد على حزء من التراث الفقهي أما «مقاصد» مشروع الدستور فهي دون اجتهاد نجم الدين الطوفي وفي نفس نمط تفكير الشاطبي مع وجود الفارق الزمني والمعرفي الضخم الذي يجعل من الشاطبي أكثر عقلانية وتقدما وحداثة من واضعي مشروع دستور «الجمهورية الجديدة»...
والسؤال هو لِمَ هذا الحرص على التمسك بفهم تاريخي ومحافظ ورجعي للموروث الديني مع الزام الدولة (التي لا دين لها قيل لنا) بتحقيق هذه الأهداف في حياة الناس؟!
الجواب واضح: مشروع الدستور هذا يسعى إلى خلق هيمنة ايديولوجية جديدة في ظاهرها قطع مع العشرية السابقة اما في مضمونها فهي إحداث قطيعة مع الحداثة التونسية بنخبها ومضامينها الأساسية المتعلقة بوجود تونس كأمة ذات كيان مكتمل وبأفق الحداثة الغربية المتجوهرة في الديمقراطية وحقوق الإنسان..
لذلك ليس عجبا أن تنبري جل التيارات القومية العربية الدفاع عن هذا المشروع لأنها هي الأقرب فكريا لتيارات الاسلام السياسي رغم الخصومات السياسية العميقة بينهما..
الإسلاميون والقوميون العرب -في عمومهم- محافظون ورافضون لكونية حقوق الإنسان بتعلة انها من الأدوات الهمينية للاستعمار الغربي، وهذان التياران معاديان خاصة لحقوق النساء وللمساواة بين الجنسين وحقوق الاقليات الدينية والعرقية واللغوية والجندرية لذا نجد أن الحزب الذي اسسه الشهيد محمد البراهمي (التيار الديمقراطي) يقول اليوم زعيمه، زهير حمدي، على بعض رموز النضال الحقوقي الديمقراطي كبشرى بلحاج حميدة وسلوى الحمروني وسليم اللغماني (وكلهم من لجنة الحريات الفردية والمساواة) بانهم ينتمون للنخبة الصهيو فرنكوفونية (نعم هكذا!!) وهو هنا لا يختلف في شيء، فكريا، عن دعاة التكفير والتخوين والذين عاثوا - ومازالوا - يعيثون فسادا وارهابا خلال كل هذه السنين التي تلت الثورة..
المحافظة تؤسس لمناخ فكري استبدادي عندما تلتحف بجلباب الثورية وتريد نفسها في قطيعة مع النخب العميلة للخارج وتخوين النخب والتحريض عليها هو الأساس الجوهري غير المنظور للبناء القاعدي..
فالبناء القاعدي ليس فقط تقنية انتخابية تصعّد سلطة تشريعية ضعيفة اضحت الآن، وفق مشروع الدستور، مقسمة بين برلمان ومجلس للجهات ولكنها بالأساس مشروع لابعاد النخب والأجسام الوسيطة كلها من مثقفين ونقابات واحزاب وجمعيات ومجتمع مدني وتعويضها بنخب جديدة قوامها الثورجية المحافظة وزبونية الشركات الأهلية مع التملص من السياسات العمومية للدولة والتي بقيت ليبرالية كلاسيكية تستجدي الإعانة الخارجية..
ثم لا كبير معنى لارجاع انتخاب نواب البرلمان انتخابا عاما حرا ومباشرا (الصيغة التي غابت في المشروع الأول وعادت على استيحاء مع تنقيحات 8 جويلية) فالعبرة هي الاقتراع على الأفراد مع تهميش جوهري لدور الاحزاب وتصعيد سلطة تشريعية ضعيفة مقابل سلطة تنفيذية مركزية لرئيس الدولة فيها صلاحيات رئاسوية.
نحن أمام وضع اللبنات الأولى لدورة هيمنة ايديولوجية جديدة حسب تعريف قرامشي..
دورة فيها رفاق طريق كثر ركبوا موجة الشعبوية الزاحف ايمانا أو خوفا على مصالح او طمعا في مواقع جديدة.. موجة ستسلط ضغوطا متزايدة على الحقوق والحريات تارة باسم ثقافة الشعب وطورا بتعلة محاربة الغطرسة الأجنبية، وسوف يتساقط رفاق الطريق واحدا بعد آخر لأن في مشروع البناء القاعدي لا مكان فيه إلا للرئيس والشعب ولا شيء - أو يكاد - بينهما.
(الحلقة الأخيرة)
(انتهى)