قراءة في الأسس الفكرية والحقوقية والسياسية لمشروع دستور «الجمهورية الجديدة»: I I- من رئيس الدولة إلى دولة الرئيس

تحدثنا في الحلقة الأولى لهذه السلسة (جريدة «المغرب» ليوم السبت 2 جويلية الجاري) عن الأسس الفكرية والإيديولوجية لمشروع دستور

«الجمهورية الجديدة» المنشور بالرائد الرسمي والمعروض – لوحده – على استفتاء يوم 25 جويلية ،وسنتطرق اليوم في هذه الحلقة الثانية إلى المخيال السياسي الذي قاد واضع (ي) المشروع هذا في تصورهم للنظام السياسي وفي محورته كله حول مركز واحد : رئيس الدولة .
تحدثنا عمدا عن المخيال السياسي (L’imaginaire politique) ولم نتحدث عن التصور الدستوري لأننا في الحقيقة لسنا أمام بناء دستوري يناقش بل أمام ترجمة جذرية لمخيال سياسي لا ينتمي للثقافة الدستورية الحديثة .
المهجة العامة في تونس منذ بضع سنين هي للنظام الرئاسي ولكننا في الحقيقة أمام توجهين متناقضين للنظام الرئاسي:
توجه دستوري ديمقراطي قائم على توحيد السلطة التنفيذية وراء رئيس منتخب مقابل صلاحيات كبيرة للبرلمان وللقضاء وللهيئات الرقابية في ما يعرف بالتفريق بين السلط وفي التوازن بينها كذلك، ولعل هذه الخلفية هي التي قادت إجمالا العميد الصادق بلعيد في المسودة التي قدمها لرئيس الدولة يوم 20 جوان الماضي والتي نشرتها الصباح يوم الأحد 3 جويلية الجاري.
أما التوجه الثاني فهو ما يرادف عند المخيال الشعبي للمقولة المأثورة للإمام محمد عبده أن الشرق لا يصلح أمره إلا بمستبد عادل..فالمخيال الشعبي عندنا لا يريد نظاما رئاسيا دستوريا على النمط الأمريكي مثلا بل نظاما رئاسيا تطلق فيه يدا الرئيس على مصراعيها..
في الولايات المتحدة الأمريكية (النظام الرئاسي الديمقراطي الوحيد في العالم ) للرئيس المنتخب صلاحيات كبيرة خاصة في رسم السياسات العمومية .لكنه يبقى دوما مستحقا لأغلبية في الكنغرس ثم إن المواطن الأمريكي لا يواجه في واقعه اليومي قرارات رئيس الدولة بل قرارات وسياسات حكومة ولايته والتي تحدد أهم الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية والأمنية أيضا فهي بمثابة الدولة المستقلة ذاتيا ولا تفوض للدولة الفيدرالية إلا مسائل الدفاع والخارجية والملفات الأمنية التي تتجاوز حدود الولاية ..
في تونس ومن خلال مشروع الدستور المعروض للاستفتاء سيكون الموضوع مختلفا تماما.
• رئيس بصلاحيات واسعة
في مشروع الدستور، رئيس الدولة هو الذي يمارس «الوظيفة التنفيذية» أي هو صاحب السلطة التنفيذية لوحده وتعاونه في ذلك حكومة يرأسها «رئيس حكومة» وهي رئاسة رمزية لا مضمون لها كما هو واضح من نص المشروع علاوة على كونها مسؤولة أمامه وحده وهو يقيل أحدا أو كل أعضائها متى أراد.
سوف لن نتحدث عن «دين «المترشح للرئاسة ولا عن سنّه الآن ولكن الذي يهمنا هنا منطوق الفصل التسعين الذي يقول أن الرئيس منتخب «لمدة خمسة أعوام انتخابيا عاما،حرّا،مباشرا،سريا» وانه إذا تعذر إجراء الانتخابات في الميعاد بسبب حرب أو خطر دائم ،فإن المدة الرئاسية تمدد بقانون إلى حين زوال الأسباب التي أدت إلى تأجيلها».
نحن إذن أمام إمكانية تأبيد مدة رئاسية خاصة وان مشروع الدستور قد أبقى على الفصل 80 لدستور 2014 ومسألة الخطر الداهم والتي نجدها مع بعض التعديل في الفصل 96 من المشروع الجديد ولكن دون تحديد المدة( شهر في دستور 2014) ودون ذكر المحكمة الدستورية فهو– أي الرئيس – يستشير رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب ورئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم دون أي تحديد لمدة الاستثناء ولا لمدة التمديد في الفترة الرئاسية ..
علاوة على تحكمه التام في السلطة التنفيذية من حيث رسم السياسات العامة والتعيينات في الوظائف السامية المدنية والعسكرية يضيف الرئيس لنفسه عديد الاختصاصات التشريعية إما بواسطة الاستفتاء (الفصل 97) أو بإصدار مراسيم خلال العطلة النيابة أو بتفويض من البرلمان لمدة محدودة (الفصل 70) هذا علاوة على أولوية مشاريع القوانين التي تقدمها الرئاسة..ثم إن الاستفتاء يسمح لرئيس الدولة بعرض مشاريع قوانين تتعلق بتنظيم السلط العمومية أي مزيد الصلاحيات او حذف صلاحيات كانت تعزى لرئيس الحكومة .
• وفي المقابل ؟
ماذا يوجد مقابل هذه السلطات الواسعة لصاحب «الوظيفة التنفيذية» ؟ لا شيء أو يكاد ..
لقد تم تقزيم دور البرلمان إلى الأقصى بدءا بتقسيم السلطة التشريعية إلى مجلسين :
مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم ولا يذكر مشروع الدستور في بابه الثالث «الوظيفة التشريعية» كيف يتم تقاسم هذه الوظيفة بين المجلسين والحال أننا نعلم جميعا أن كل النظم التي تقوم على غرفتين تعهد لغرفة واحدة (الغرفة السفلى أي البرلمان) المهمة التشريعية بعلويتها الدستورية على الغرفة الثانية ولكن هذا التوضيح لم يرد مطلقا في المشروع المعروض على الاستفتاء ..
فوحدة الدولة ،وفق فلسفة هذا المشروع،لا تكمن إلا في وحدة السلطة الوظيفة التنفيذية أما السلطة (الوظيفة) التشريعية فيمكن تفتيتها والحد من صلاحيتها دون إشكال ..
ثم نحن لا ندري كيف سيتم انتخاب هذا البرلمان مادام المشروع قد صمت قصدا عن انتخاب النواب انتخابا حرا ومباشرا واكتفى في الفصل 60 بالقول «يتم انتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب لمدة خمس سنوات (...)» وهذا باب مفتوح على مصراعيه لنظرية البناء القاعدي وللتصعيد عبر القرعة أو الانتخاب غير المباشر .
ومزيدا في التأكيد على تهميش دور البرلمان يتم التنصيص في الفصل 61 على إمكانية سحب الوكالة بينما لا توجد هذه الإمكانية مطلقا في حق رئيس الدولة .كما أن العلاقة بين المجلسين التشريعيين ستوكل للقانون ليحددها (الفصل 86).
ثم انه لا يحق للمجلس التشريعي بغرفتيه مساءلة رئيس الدولة أو توجيه لائحة لوم له..ما يحق له هو فقط مساءلة الحكومة وتوجيه لائحة لوم لها ..لائحة عمل مشروع الدستور على استحالتها العملية في النص ذاته .
يوضح الفصل 115 شروط تقديم لائحة اللوم ضد الحكومة ..في البداية لا تقدم هذه اللائحة إلا إذا وافقت الأغلبية المطلقة (%50 زائد واحد) لكلا الغرفتين عليها ثم تتم المصادقة عليها بأغلبية الثلثين لأعضاء المجلسين مجتمعين « في هذه الحالة يقبل رئيس الدولة لائحة اللوم وإذا ما تجددت ثانية يخيّر حينها رئيس الدولة بين قبول استقالة الحكومة أو حلّ المجلسين أو أحدهما .
هذا أمام المجلس التشريعي بغرفتيه أما أمام القضاء فالرئيس هو الذي يقوم بتسمية القضاة دون اشتراط الرأي المطابق للمجلس الأعلى للقضاء والذي لم تتم دسترته في هذا المشروع.
وبعد ذلك نجد أن المحكمة الدستورية تتكون من تسعة أعضاء كلهم من القضاة يعينهم رئيس الدولة (هذه النقطة ضمنية وغير مصرح بها في النص) من بين أقدم كبار القضاة وإذا ما بلغوا سن التقاعد يتم تعويضهم يمن يليهم في الأقدمية ..
الواضح أن شروط الاستقلال الفعلي للقضاء وللمحكمة الدستورية غير متوفرة وغير مضمونة، أما عن الهيئات الدستورية فلم يتم الاحتفاظ إلا بهيئة الانتخابات يضاف إليها فقط المجلس الأعلى للتربية والتعليم والضمني هنا أيضا هو أن جهة التعيين هي رئيس الدولة فقط لا غير .
في المجمل نحن أمام نظام سياسي يتمحور فقط حول رئيس الدولة إلى أن كاد يماهي بين الدولة والرئيس فانتقلنا بوضوح من رئيس الدولة الى دولة الرئيس .
(يتبع)
III-الحريات وحقوق الانسان زمن البناء القاعدي المحافظ

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115