والذين وجدوا ما يغذي مخاوفهم في جملة من التطورات من بينها نشر الزميلة «الصباح» لمسودة مشروع الدستور الذي اعدته الهيئة الاستشارية برئاسة العميد الصادق بعيد.
مخاوف عبرت عن نفسها في ما يشبه حملة منسقة متزامنة استهدفت شخصيتين أساسيتين وهما العميد الصادق بلعيد واستاذ القانون الدستوري الامين محفوظ، اذ كان كلاهما عرضة للنقد الحاد والهجوم والاتهامات الصريحة «بالخيانة» والتلاعب باشغال اللجنة وتهم تصب في شيطنة ظهورهما الاعلامي الذي كان يوم الاحد الفارط.
شيطنة طالت الرجلين من قبل صفحات على شبكة التواصل الاجتماعي «فايسبوك» وتعليقات لحسابات تعلن دعمها للرئيس ولمشروع الدستور المنشور في الرائد الرسمي بتاريخ 30 جوان الفارط، وتعتبر ان ما يقوم به الرجلان ليس الا «حملة» منظمة لها اهداف واجندة تمس من الرئيس ومشروعه.
حملة استندت الى تصريحات لزهير المغزاوي الامين العام لحركة الشعب والمشارك في اشغال الهيئة الاستشارية بصفته الحزبية، والذي اعلن ان بلعيد والامين محفوظ شكلا مع عدد من اعضاء الهيئة «مجموعة سرية» قامت بالانقلاب على مضمون النقاشات في الهيئة وحرفت توصياتها لصياغة مسودة دستور لم تناقش في اشغال الهيئة ولم تحظ بقبولهم.
تفاصيل الاتهامات التي وجهها زهير المغزاوي لكل من بلعيد ومحفوظ بالاساس كانت لبنة الحملة التي لم تكتف بالرجلين بل انتقلت لتطال من قدم موقفا نقديا للتطورات السياسية الاخيرة ولمشروع الدستور الذي نشر في الرائد الرسمي.
حملة اعتمدت التخوين والترهيب والثلب على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا في اليوم الاول لحملة الاستفتاء الذي لم تغب عنه احداث عنف على الارض وفي الواقع الفعلي، اذ منع نشاط لحزب افاق تونس في مدينة الرقاب من ولاية سيدي بوزيد كان يندرج في اطار حملة الاستفتاء التي سجل الحزب مشاركته فيها واعلن انه سيكون من المعارضين للدستور.
منع قال الحزب انه صادر عن «تنسيقيات» تنتسب للرئيس وان هذا تم تحت انظار ومسامع اجهزة الدولة من امن وسلطات جهوية ومحلية ينص القانون على حيادها ويكلفها بمهمة توفير مناخ سليم لحملة الاستفتاء بحماية الفضاء العام من العنف .
عنف مادي ومعنوي هما حصيلة اليوم الاول من الحملة التي لاتزال في بدايتها ولازال نسقها منخفضا، وهو ما ينذر بمخاطر فعلية تطال مسار الاستفتاء وتمس من نزاهته، اذ ان ترهيب المخالفين والمعارضين لمشروع الدستور سواء على شبكات التواصل او عبر منع الانشطة على ارض الواقع مؤشر خطير يمس من نزاهة العملية برمتها ويجعلها محل تساؤل.
فالعنف والمناخ المحتقن الذي هيمن على اليوم الاول من الحملة يضعنا صراحة امام خطر استشرائه في الايام القادمة وتطوره ليكون عملية ترهيب تطال جزءا من التونسيين لهم مواقف وأراء يكفل القانون الانتخابي لهم الحق في التعبير عنها وفق ضوابط وقواعد تقوم على تكافئ الفرص والمساواة لا على المغالبة والترهيب لاحتكار الفضاء العام.
ترهيب وبث للخوف المراد منه الهيمنة على الفضاء العام وعلى النقاش وتوجيه لصالح موقف وحيد والخطر الاشد ان توّظف اجهزة الدولة وتتورط في هذا الاصطفاف. خاصة وان حزب افاق تونس في بيانه اشار الى ان الاعتداء على نشاطه ومنعه كان تحت انظار قوات الامن والسلطات المحلية التي لم توفر لهم الحماية التي يقرها القانون.
وهذا يضع الكثير من نقاط الاستفهام عما حدث وعن صمت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي منحها القانون صلاحية ادارة العملية الانتخابية والاشراف عليها بما يضمن نزاهتها وشفافيتها وهي اليوم تتحمل مسؤولية اي حدث قد يؤثر على هذا المسار سلبا او يحول دون تحقيق مبدإ النزاهة وتكافئ الفرص.
وليست الهيئة وحدها التي تتحمل المسؤولية بل حكومة نجلاء بودن ورئاسة الجمهورية فهما مطالبتان بضمان حياد الادارة واجهزة الدولة في العملية الانتخابية وفي الاستفتاء لتوفير شرط اساسي لنزاهة وسلامة العملية وهو ان تكون الدولة واجهزتها على مسافة وحيدة من الجميع وان توفر مناخا مستقرا وامنا لحملة يعبر فيها التونسيون عن مواقفهم وهم آمنون غير مهددين او مرهّبين.
مسؤولية ان لم يقع تحملها ستكون لها تكلفة سياسية وستكون ورقة تستعمل لاحراج رئيس الجمهورية الذي لم يخف انتقاداته للعمليات الانتخابية السابقة واتهامه لها بتزيف الوعي واستغلال اجهزة الدولة، واليوم سيكون مطالبا ان يحترم موقفه وتعهداته.
دون هذا ستكون العملية الانتخابية مختلة اذ سيغيب عنها النقاش العام وفتح الفضاءات العمومية للتونسيين للتعبير الحر عن قناعاتهم وارائهم ومواقفهم من مشروع دستور يعرض ليهم ليقرروا اي خيار يتخذونه، واذا غيبت الخيارات او حصرت في خيار وحيد ينتصر لجهة بعينها فان جوهر العملية ينهار- وهو الاحتكام للتونسيين ومنحهم حرية الاختيار.
حرية لا تضمن ان منع او رهّب من له موقف قد لا يتماشى مع من هو في الحكم او مع انصار فريق وجد في صمت المؤسسات ما يشجعه على التمادي في احتكار الفضاء العام واغلاقه على من هم مختلفون عنه. ويؤسس لممارسات تشرع العنف تحت مسميات عدة وتبرره باسم الخيار السياسي او تحت شعار «الشعب يريد».
اليوم تقع المسؤولية على الهيئة لضمان مناخ انتخابي سليم، خاصة وان المسار الذي افرز مشروع الدستور واجه هزات وعثرات منذ بدايته مما حال دون تحقيق شروط موضوعية تؤمنه من الارتدادات.