وسائل الإعلام إلى الإعلان عن التوجهات العامة لهذه الوثيقة من قبل أبرز وأهم مهندسيها..
من الأشياء التي تكررت في هذه الأيام الأخيرة وخاصة على لسان عميد المحامين الأستاذ إبراهيم بودربالة رئيس اللجنة الاقتصادية والاجتماعية التي أوكل إليها وضع الباب الأول في الدستور الجديد..نسمع أن أحد فصول الدستور القادم سيمنع بصفة واضحة الحكومة – أو الهيئة الحكمية – من الاقتراض لسداد الأجور وأن الاقتراض لن يسمح به إلا متى كان موجها للاستثمار، ويرى العميد بودربالة أننا بهذه الطريقة سنقطع مع عبث»العشرية السوداء» التي أثقلت كاهل البلاد والعباد بالتداين المشط ..
يبدو أن اللجنة المضيقة لصياغة الدستور لم تعرض هذا الباب وهذا الفصل بالذات على أهل الاختصاص لأنه لو عُرض عليهم لبينوا بكل وضوح أننا إزاء لخبطة مفهومية وعملية لا يعقل البتة أن تصاغ على هذا النحو في دستور للبلاد التونسية.
لا ينبغي للمرء أن يكون مختصا في الاقتصاد ليدرك أن القروض الخارجية خاصة من صنفين اثنين .صنف مخصص لتمويل مشاريع استثمارية بعينها وصنف ثان مخصص لدعم ميزانية الدولة ..
الصنف الأول لا يذهب بالطبع لنفقات التأجير والثاني أيضا لا يخصص لنفقات التأجير ولا يخصص تحديدا بابا دون آخر بل هي موارد مالية تتصرف فيها الدولة وفق مجالات إنفاقها المختلفة ..
ثم لو كانت الدولة تحتاج إلى الاقتراض الداخلي أو الخارجي لتغطية نفقات التأجير لأعلنت إفلاسها منذ عقود ذلك أن نسبة كتلة الأجور المرتفعة جدا عندنا هي دون %40 من حجم الميزانية (21.5 مليار دينار للأجور من أصل حوالي 57 مليار دينار كحجم للميزانية) ولو جمعنا كتلة الأجور مع نفقات الاستثمار لكانت دون نصف الميزانية ( اقل من 26 مليار دينار) بينما ترتفع الموارد الذاتية للدولة (جبائية وغير جبائية) إلى حدود 38 مليار دينار !!
فالقول ،إذن،بأننا سنمنع الاقتراض لتمويل نفقات التأجير هو من قبيل اللغو والجهل بأبجديات هندسة الميزانية وأبوابها ،فنحن لا نقترض لتغطية نفقات الأجور أو الدعم أو نفقات التصرف أو مختلف تدخلات الدولة أو لسداد الديون أو للاستثمار بصفة منفردة بل نقترض لهذا كله مجتمعا وحاجياتنا إلى الاقتراض الخارجي بطبعها لا يمكن ( في جل الحالات) أن تذهب للتأجير بل لخلاص ديوننا الخارجية ولتوفير احتياجاتنا من المحروقات والمواد الأساسية والأدوية ..
النقاش الجدي الوحيد والذي يمكن دسترة نتائجه هو هل نضع حدا إجباريا لسقف التداين السنوي أم لا ؟ أي هل نرسي ما يسمى بالقاعدة الذهبية كأن نقول بان العجز العمومي الهيكلي (أي دون احتساب الحالات الاستثنائية) لا ينبغي له أن يتجاوز %0.5 من الناتج الإجمالي المحلي أو ان نضع قاعدة وجوبية لكي لا يتجاوز عجز الميزانية %3 من الناتج المحلي الإجمالي ..
هذا نقاش جدي ينبغي لأهل الاختصاص ان يفيضوا فيه لكي نعلم هل أنه بإمكاننا فرض هذه القاعدة الذهبية الآن أم لا وبأي نسبة معقولة؟ حتى لا نعيق عمل الحكومات القادمة بحواجز اصطناعية ليست دوما مفيدة بالضرورة ..
نرجو أن يكون الكلام الذي استمعنا إليه هذه الأيام الأخيرة من قبيل الأفكار العامة الأولية والتي لن تجد مكانا لها في الصياغة النهائية لمشروع الدستور وإلا لكنا أمام مهزلة ،في هذا الباب بالذات على الأقل.
تلك هي النتيجة الحتمية لكل عمل انفرادي مهما كانت النوايا الأصلية لأصحابه.