المسألة لا تتعلق فقط بموازين القوى وبعلاقة الدول الكبرى بما يسمى بدول العالم الثالث أي المستعمرات القديمة بل وكذلك بما تقبل به كل دولة من التخلي عن أجزاء من سيادتها التقليدية لفائدة سيادة مشتركة في تجمعات إقليمية والمسألة تتصل ايضا باعتبار الربح والخسارة لو نقارن بين السيادة الجزئية المتنازل عنها والمكاسب المنتظرة من هذه السيادة التشاركية ..
بل إن المسألة تكون أحيانا أكثر دراماتيكية عندما يتعلق الأمر بدول فاقدة موضوعيا لأهم مقومات سيادتها وهي تريد مع ذلك أن تدافع بكل ما تملك عن سيادة قرارها السياسي..سيادة تكون مظهرية في الأغلب الأعم هذا إن لم تتحول إلى سيادوية عدائية تستهدف بالأساس خصوم الداخل قبل القوى الخارجية .
استقلال القرار مسألة حيوية لكل دولة ولكن استقلال القرار لا يعني انه بإمكان دولة ما أن تفعل ما تريد وقت ما تريد ولا يعني أيضا الدخول في صراعات تستنزف القوى وتدفع إلى الانعزالية ..استقلال القرار الوطني يعني القدرة على حسن قراءة موازين القوى الدولية بكل أبعادها والسعي إلى الاستفادة القصوى من ثغراتها مع التحسين المستمر لشروط التفاوض ..
لنقلها بكل وضوح لا معنى للسيادة الوطنية دون اقتصاد قوي يخلق الثروة داخليا ويكون قادرا على المنافسة خارجيا ولديه ديناميكية تجعله يرتقي في سلّم القيم بوتيرة أسرع من المعدلات العالمية..
ثم إن السيادة الوطنية الفعلية تعتمد دوما على جبهة داخلية قوية وموحدة وتكون مؤسسة على رؤية استشرافية لمستقبل بلد ما .. أي بعبارة أخرى ماذا نريد أن يكون بعد عقدين أو ثلاثة ؟ قوة اقتصادية إقليمية أم قوة عسكرية ؟ وهل نريد تأسيس قوتنا الاقتصادية على الخدمات أم على الصناعة ام على القيمة المضافة العليا في اقتصاد الذكاء؟ وعلى كل اختيار تتأسس اختيارات جوهرية في إصلاح منظومات التربية والتكوين والبحث العلمي والبنى التحتية الملائمة والمشاريع المهيكلة المؤدية إلى هذه النتائج ..
الخطر كل الخطر ألا يتأسس خطاب السيادة الوطنية على مشروع تقدم شامل للبلاد وان يلعب فقط على عواطف الناس وعلى تجييش شعبوي من اجل حماية سلطة قائمة لا من اجل النهوض بالمجتمع والدولة.
ولنعتبر بتجارب الشعوب والدول الماثلة أمام أعيننا فلقد رأينا ما أدّت إليه ثقافة «طز في أمريكا» وكيف أنها كانت عاجزة عن بناء شروط السيادة الوطنية الفعلية واعتقدت أن اللعب على أوتار السيادوية هو أفضل السبل للبقاء في السلطة..
إن تونس اليوم تحتاج ،وأكثر من أي وقت مضى،إلى مشروع وطني حقيقي لانجاز السيادة الوطنية الفعلية ..سيادة يحصنها اقتصاد قوي ومدمج لكل فئات وجهات الشعب وديمقراطية صلبة قائمة على مؤسسات فعلية تضمن الاستقرار والمراكمة مهما تنوعت أغلبيات الحكم وتعددت .