تونس السعيدة باعتباطياتها

لنفكّر في المثال التالي: عبد مملوك لسيد يرفض أن يعتقه، ولكنّه يعده أن لا يتدخّل في أقواله وأفعاله. وعليه، أصبح للعبد أن يفعل ما يشاء دون قيود أو شروط مسبقة.

السؤال: هل أن العبد حرّ أم لا؟

لا شك أن امتناع السيد عن تقييد أفعال عبده وأقواله يجعله يتمتّع بهامش من الحرية لا ينعم به العبيد عادة. ولكن هل يعني ذلك أن العبد هنا قد أدرك الحرية؟ إن القول بحرية العبد تناقض لفظي غير جائز. فلا يمكن لأي عبد أن يكون حرّا إلا إذا رفعت عنه صفة العبودية. لكن في المقابل، إذا كانت الحرية تعني رفع القيود عن القول والفعل، كيف لا يكون حرّا من له أن يفعل أو أن يقول ما يشاء؟

تؤكّد هذه المعضلة ضرورة التفكير في معنى الحرية. إذ يشير المثال المذكور إلى قصور تعريفها بمجرد غياب القيود من خلال ما يسمّى بضمان الحقوق والحريّات الأساسيّة. فغياب هذه الحقوق ينفي بالتأكيد الحرية. فليس بالحرّ مثلا من هو حبيس سجن لا يملك أن يغادره. ولكنّ وجود القدرة على الحركة وغيرها من الحقوق لا يكفي لإثبات الحرية. وذاك سرّ صعوبة حلّ معضلة العبد المتحرر من القيود. ذلك أنه حرّ في ظاهر الأمور، ولكنّ حريّته جاءت مقترنة بسيف يمكن أن يقطعها في أيّ لحظة بحكم استمرار حالة العبودية فيه.

في الحقيقة، ذاك العبد ليس حرّا. وسبب ذلك أنه، رغم الغياب الظاهر لقيوده، يبقى سجينا لإرادة غريبة عنه. فهو في قبضة حكم اعتباطيّ، قرّر أن يرفع عنه القيود دون أن ينهي شرط عودة فرضها في أي لحظة يشاء.
لا يمثّل غياب القيود في الحقيقة جوهر الحرية. فجوهرها هو غياب التبعية. ومن يعيش في التبعية لا يمكن له أن ينعم بجوهر الحرية، حتى إذا لم تقترن تلك التبعية بقيود ملموسة.

غياب الحرية هنا ليس نظريا أو قيميا فحسب، بل إنه عملي وفعلي أيضا. فالعبد المبتهج بخلاصه من القيود يبقى في حقيقة الأمر سجينا لرقابة ذاتية تفرضها حالته الأصلية. فشعوره بالتحرر من إرادة سيده لا ينفي لديه الخوف من عودة القيود متى أراد السيد ذلك. وذاك ما يجعله ضحيّة لاستعباد طوعي يسعى من خلاله لإرضاء ذلك السيد. أي أن حالة العبودية لديه تدفعه إلى استباق رغبات السيد، ومن ثمّ تلبيتها دون أن ينبس صاحبها ببنت شفة.

إن حياة العبد عبارة عن تجربة مستمرة للرقابة الذاتية. وانظروا إن شئتم إلى حالة جزء كبير من وسائل الإعلام التونسية اليوم. وقارنوا إذا أردتم بين ما كانت تبديه من استهجان في الأمس لسبب أو لغير سبب من جهة، وبين تبريرها اليوم لما تأتيه السلطة من مراكمة للصلاحيات ومن أخطاء في الخطاب والسياسات من جهة أخرى. وهذا أمر طبيعي. فحين يشعر أحدهم بأنه في تبعيّة لإرادة ما، يكون على أتمّ الاستعداد لمغازلة تلك الإرادة، ممّا يزيد في قدرة الرقاب على طأطأة الرؤوس، ويعزّز مرونة الأعمدة الفقرية حين انحناء الظهور.

ليست الحرية أن يقول حاكم ما إنه لم يعلّق الفصول المتعلّقة بالحقوق والحريات في الدستور، أو أن يتعهّد بعدم التدخّل في القضاء، أو أن يتبجّح أنصاره بأنهم يثقون في التزامه بهذه الوعود. بل الحريّة أن تكون الحقوق الأساسية والفصل بين السلطات والتوازن بينها وإمكانية التداول على السلطة وغيرها من شروط الديمقراطية مضمونة بالمؤسسات، بحيث لا يحتاج أي صاحب سلطة إلى أن يبرّر سلطته من خلال تأكيد التزامه بعدم المساس بها.

ذاك هو الشرط الذي تنازلت عنه تونس منذ 25 جويلية والذي تصعب اليوم إعادة بنائه. إذ بقبول الجماهير بخروج السلطة الصارخ عن نص الدستور وروحه، وباستعداد النخب لإنهاء حالة الفصل بين السلطات أصبحت البلاد تحت رحمة الاعتباطية. وقد زاد الطين بلة دعوة بعض أنصار 25 جويلية لضرورة توفير ما سمّوه حينها بالضمانات الرئاسية للعودة إلى الديمقراطية. فقد كانت تلك الأصوات حينها تقرّ، ربما عن حسن نيّة، بجواز الحكم الاعتباطي في البلاد. إذ أنها بمطالبتها بتلك الضمانات الرئاسية غير الدستورية كانت قد اعترفت باستعدادها لتسليم الحرية لإرادة فرد لمجرد أنها تثق فيه. ولم تر أن توفير هذه الضمانات بعد الخروج عن الدستور لا يختلف عن ضمان السيد في مثالنا لغياب القيود على أفعال عبده وعلى أقواله.

حين أراد الأمريكيون الاستقلال، كان شعارهم: «فرض الضرائب دون تمثيل برلماني هو عين الطغيان». ذلك أن المستعمرات كانت حينها تدفع الضرائب لبريطانيا دون أن تكون ممثلة في البرلمان. أجابت الحكومة البريطانية حينها، «ولكن الضرائب التي تدفعها المستعمرات أقلّ من الضرائب التي يدفعها البريطانيون أنفسهم». فردّ المطالبون بالاستقلال، «إن المشكل الرئيس ليس في سياساتكم الضريبية الحالية، بل في ما تملكونه من صلاحيات غير مقيّدة، هي عبارة عن سيوف على رقابنا. وتلك سلطة لا تتلاءم مع الحريّة بحكم أنها اعتباطية». وبما أن الثوار الأمريكان كانوا يطالبون بحريتهم مع كونهم ملاّك للعبيد، كانوا يعلمون بالتأكيد أن العبد عبد بغض النظر عن معاملة سيده له. وهو عبد حتى وإن كان سيده لا يفرّق بينه وبين أولاده، فلا يستخدم سلطته عليه إلا لمصلحته. هو عبد ببساطة لا لأنه بالضرورة مضطهد اليوم، ولكن لأنه لا يعلم أي اضطهاد قد يصيبه غدا.

منذ 22 سبتمبر انفضّ الكثير من أنصار 25 جويلية من حول الرئيس. منهم من لاذوا بالصمت بعد أن كانت أصواتهم تزمجر امتعاضا من الصغائر قبل الكبائر. ومنهم من انقلب على عقبيه ينقد سياسات الرئيس ويصفه بأقذع الأوصاف. وآخرون تحذلقوا، فوجدوا مخرجا ادعوا من خلاله أنهم داعمون للحظة 25 جويليا، ولكن مع معارضة الانحرافات التي تمخّض عنها مسارها. وكلهم يشتركون في عدم الإقرار بالخطورة الجوهرية لقبولهم بالاعتباطية التي ميّزت ما سميّ حينها بالقراءة المتوسّعة للفصل الثمانين من الدستور.

إن الحرية مشروطة بسلطة القانون. ولكن ما معنى سلطة القانون؟ إنها تعني أولا وقبل كل شيء خضوع ممارسة السلطة للقانون، أي غياب الاعتباطية في ممارسة السلطة. ثم إنها تعني كذلك خضوع التشريع في مساره ومخرجاته للقانون من حيث الشكل إجراء، ومن حيث المضمون تناسقا مع بقية القوانين. فلا يكون الدستور مثلا خاضعا للأوامر الرئاسية. ولا تكون عقوبة جريمة احتكار المواد الأساسية أشدّ أحيانا من عقوبة تجارة المخدرات. فالبنت لا تنجب أمها. أما العقوبة، فهي جرم إذا لم تراع مبدأ التناسب.

معنى ذلك أن سلطة القانون تتناقض مع ما يردده بعض أنصار الرئيس (المطالبين بسلطة القانون والمنقلبين باسمها على الدستور والديمقراطية). فالأحكام الاستثنائية، مهما كانت مبرراتها، لا يمكن أن تمنح الحرية المطلقة للسلطة كما يدّعون. فذاك بالتحديد معنى التبعية المطلقة والاعتباطية الفجّة، إذا كان لا يزال للكلام معنى في هذا البلد السعيد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115