حيّز التنفيذ وأن الامر لن يتعدى عملية ترهيب يثني فيها الظابط السامي السابق للإستعلامات الروسية عضلاته لإخافة الجار المخادع وتذكير بقية العالم ولا سيما دول منظمة الناتو أنه لا تزال للإمبراطورية الروسية بقايا لا يستهان بها وأنها لم تتخل عن استعاده بريق تاريخها وأنّها لم تعدل عن استرجاع سيطرتها على بلدان جوارها القريب. لكن فلاديمير بوتين راهن على الفارق الشاسع لميزان القوى بين بلده واوكرانيا كما راهن على أن الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية، وهي تتخبط في منافسة شرسة مع الصين، لن تبعث قوى لمساندة أوكرانيا وان أوروبا لن تكون قادرة على الاستغناء عن الغاز الروسي كما راهن على انّ الحرب ستكون سريعة ولن تدوم أكثر من بضعة أيام. إلّا أنّ الرياح تهب بما لا تشتهى السفن وانه خلافا لما كان يعتقد فان شعب أوكرانيا صمد أمام قوات الغزو واستبسل في صموده بصفة أبهرت العالم وأضحت تنبؤ بأن احتلال روسيا لأوكرانيا سيكون مضنيا، مكلفا على غرار ما عرفه السوفيات عند غزوهم لأفغانستان.
ولن تبق تونس في مأمن من آثار هذه الحرب وتداعياتها وهي متعددة وبدأت تلاحقنا في ظل الازمة الاقتصادية والمالية الخانقة اللتى نعيشها.
ستكون لهذه الحرب عدة تداعيات هامة على الاقتصاد التونسي ولكنها ستفرز أيضا فرصا يجب علينا استغلالها وحسن التعامل معها.
1 - تونس بلد يحتاج الى استيراد جزء هام من حاجياته من الحبوب من قمح صلب وقمح لين وشعير وأعلاف حيوانية. ويتغير هذا الجزء من سنة الى اخرى بتغير الانتاج المحلي لهذه المواد. وان كان انتاج القمح موزعا على غالب أطراف المعمورة فان أغلب الدول تنتج لتسديد حاجياتها وتغطية استهلاكها المحلي وتقتصر السوق العالمية لهذه المادة الاساسية على عدد محدود من المنتجين المصدرين (سبعة دول مع الاتحاد الاوروبي تمثل 85% من الكميات المسوقة) مع موقع متميز لبدان حوض البحر الأسود (روسيا واوكرانيا على قدم المساواة) مقابل عدد محدود من المستهلكين الموردين. وتتصدر بلدان افريقيا الشمالية ( مصر والجزائر وتليهما تونس) قائمة البلدان الموردة. وتستورد تونس قرابة النصف من حاجياتها من أوكرانيا وروسيا. ولقد عرفت أسعار الحبوب ارتفاعا هاما خلال السنة الفارطة بمعدل 30 % تقريبا مقارنة بأسعار 2020 وذلك نتيجة تعافي أغلب اقتصاديات العالم وارتفاع الطلب مقارنة بالعرض. وواكبت هذا الارتفاع زيادة هامة جدا في أسعار النقل البحري فأثقل ذلك كاهل الميزان التجاري للبلاد التونسي وزاد في عبئ صندوق التعويض. على سبيل الذكر ارتفعت كلفة الطن المستورد في سنة 2021 من القمح الصلب إلى 1200 ديناربينما لم تتعد 900 دينار لسنة 2020 وتدل المؤشرات الاولى بعد اندلاع الحرب أن أسعار الحبوب اتخذت مسارا صعوديا قويا. خرجت تونس مؤخرا على السوق الدولية لطلب عروض لتزويدها ب 75000 طن من القمح الصلب فكان أحسن عرض في مستوى 633,5 دولار عن الطن الواحد أي ما يعادل 1900 دينار بزيادة تقارب 60 % عن معدل أسعار 2021. إن المخاطرة اليوم تكمن أكثر في عدم حصول تونس على حاجياتها من الحبوب من الثمن الباهض الذى ستتحمله المجموعة الوطنية.
2 - كان للحرب نفس المفعول على أسعار النفط فارتفع سعر البرميل في ظرف أيام قليلة من 90 دولار للبرميل الى ما يفوق 130دولار ولا أحد يمكنه أن يتكهن بمسيرته القادمة خاصة لو تواصلت الحرب وهي ستدوم حتى وان أوقفت المدافع قصفها والطائرات نيرانها. من المتوقع أيضا أن تجابه روسيا العقوبات الاقتصادية المسلطة عليها من أوربا وأمريكا بمثيلها وذلك بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا و وقف الصادرات الى الغرب من المواد الأولية اللتى تحتاجها صناعته. وان مرت روسيا الى هذه العتبة فانه سيكون لذلك آثار وخيمة على نسق النمو في العالم وعلى مستوى التضخم والاسعار والقدرة الشرائية.
3 - يشهد العالم مستويات تضخم لم يشهدها منذ عقود مضت وهي نتيجة حتمية لكل ما تم ضخه من سيولة لمواجهة جائحة الكوفيد خلال السنتين الأخيرتين. أحجمت البنوك المركزية حتى الآن عن رفع مستوى أسعار الفائدة متجنبة ضرب نمو لا يزال هشا. إلّا انه مع الارتفاع الجنوني لاسعار النفط ستكون أغلب البنوك المركزية وفي مقدمتها الاحتياطي الفيدرالي الامريكي مجبرة على الرفع من أسعار الفائدة لعلها تكبح جماح ارتفاع الأسعار. سيفضي ذلك وحتى في غياب ديون إيضافية الى الزيادة في خدمة الدين لميزانية الدولة التونسية وإثقال كاهلها بأعباء إيضافية.
4 - هددت أميريكا روسيا بفصلها عن نظام سويفت للدفوعات الدولية. وان حصل ذلك فانه سيعقّد عمليات التوريد من روسيا، خاصة بالنسبة للمواد الأولية كالبخارة، ويرفع من تكلفتها ويجعل اقتناءها مرتبطا بتسديد ثمنها مسبقا
5 - لقد نتج عن حالة الحرب المعلنة وعن العقوبات المسلطة على الاقتصاد الروسي انهيار للعملة الروسية وكل هذا سيفضي لا ما حالة الى تراجع عدد السياح الوافدين على بلادنا من هذه الرباع ويقدر التراجع المنتظر في حدود مليون سائح كم كنّا في حاجة لهم بعد سنتين عجاف للقطاع السياحي مع العلم أن السياح الوافدين من البلدان الشرقية يقدمون أساسا في فصل الشتاء ويعطون بذلك نفسا متميزا للقطاع. وان تواصلت حالة الحرب فان انعكاساتها على القطاع السياحي قد تمتد الى بلدان اخرى غير بلدان النزاع.
6 - من بين التداعيات الاخرى التي لم نلمسها في تونس ولكنها ظهرت في بلدان قريبة منا جغرافيا واقتصاديا فهي تسارع تدفق الأموال نحو الخارج. لقد شهدت مصر في الأيام القليلة الماضية ارتفاعا غريبا في خروج رؤوس الأموال قدر بما لا يقل عن ستة مائة مليون دولار في ظرف وجيز بدون سبب تجاري او اقتصادي غير تراجع الثقة في الأوضاع الداخلية.
كل هذه التداعيات ستثقل لا ما حالة عجز ميزانية الدولة وكاهل خدمة الدين ولكن ايضا عجز صندوق التعويض وستعمق من حاجيات الدولة من الموارد الأجنبية وستقلص من هامش التفاوض مع الأطراف المانحة وعلينا جميعا أن نعبأ كل طاقاتنا لمواجهة أيام صعبة تترصدنا ولن يكون ذلك إلا بإعادة الاعتبار لقيم العمل والجهد وانتعاش القطاعات المعطلة ورفع العوائق أمام المؤسسة الخاصة وفتح الآفاق أمام منظومتي القرض الصغير والاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
وأخيرا ولا آخرا فان أزمة أوكرانيا يمكن ان توفر لنا فرصا جديدة يجب علينا اغتنامها وتوظيفها:
- التنسيق مع الجزائر للترفيع من كميات الغاز المارة عبر خط الامداد المغاربي المار من تونس استجابة لتغطية جزء من حاجيات أوروبا أمام التراجع المنتظر للغاز الروسي
- ان حالة عدم الاستقرار في أوكرانيا ستدوم حتى لو توقفت الحرب وسينجر عن ذلك إعادة لتركيز العديد من الاستثمارات الأوروبية للصناعات المصدرة نحو بلدان مجاورة للاتحاد الاوروبي. يمكن لتونس ان تلعب دورا هاما في اعادة ترتيب الأوراق وان تستقطب عددا من هذه الاستثمارات مع ما ينجر عنها من خلق مواطن شغل كم نحن في حاجة اليها. علينا ان نتحرك بسرعة
- حان الوقت لنعيد النظر في منضومة ورثناها عن عقود الاشتراكية الإدارية تنظم تزويد البلاد من المواد الاساسية من حبوب وقهوة وشاي وسكر وأدوية وأن يقع تشريك القطاع الخاص في تلك العمليات حسب كراسات شروط واضحة و تحت رقابة الدواوين العمومية والصيدلية المركزية لان ذلك سيفضي لا ماحالة الى أكثر جدوى وأقل كلفة على المجموعة.
- كل الأزمات المتتالية للسنوات الاخيرة تؤكد وجوب اعادة الاعتبار للقطاع الفلاحي والرفع من أدائه. فهل من آذان تصغي؟
ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين