ما يجري في تونس، ويبدى «قلقه الشديد» حول مآل التجربة التونسية...». ولكن هل أن لهذا الانزعاج أو الخوف أو الشعور أهميّة في نظر التونسيين؟
فباستثناء الحقوقيين المهتمين برصد ردود الفعل العالمية أو السياسيين المتابعين لمواقف الدول لمعرفة مدى قدرتها على الضغط أو المنتظرين «للرجل الأبيض المخلّص» لا يكترث عموم التونسيين بصورة تونس بين الأمم ولا بمواقف رؤساء العالم فهل نفسّر حالة اللامبالاة بـ«استواء الأضداد»؟
قد نجد في القراءة السياقية ما يبرّر حالة عزوف التونسيين عن السياسية والتدقيق في دستورية الإجراءات والالتزام بالقانون فعندما تسقط الأقنعة وتختلط المعايير ويعمّ الخراب وتستشري الفوضى والشعبوية وتتمأسس أزمة الشكّ، وتنهار منظومة القيم تفقد المعايير أهميتها وتغدو الكلمات غير مؤثرة في النفوس. وكلّما تعقدت الأوضاع وكثرت الأخبار حول القضاة والأمنيين والإعلاميين الفاسدين والسياسيين «الخونة» ومن والاهم (لجنة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي) تقوقع القوم على ذواتهم وصاروا أكثر رغبة في الالتفاف راء رجل/مختلف/«مستبد عادل» ... وأكثر ميلا إلى متابعة شؤونهم اليومية وأشدّ عزوفا عن عقلنة المواقف وأكثر تحصنا بمعارفهم التقليدية بل إنّهم أضحوا أكثر رغبة في تصديق الروايات والإشاعات والخرافات وغيرها.
انطلاقا من هذا الوضع نتفهم التفاف الناس حول الرئيس وتصدّره لقائمة الأسماء المرشحة لنيل ثقة التونسيين في الانتخابات القادمة رغم إقدامه على اتّخاذ قرارات تخلخل بنية المعرفة القانونية وتربك دلالات المفاهيم والمبادئ القانونية، وتثير «قلق» الدول والمنظمات والهيئات...فبعد سنوات من النقاش حول المفاهيم القانونية والمواثيق والمعايير وتجارب الانتقال الديمقراطي والعدالة والمساواة وغيرها من المصطلحات والقيم والمبادئ والمصطلحات الملغزة التي لا يفقه معناها إلاّ أهل الاختصاص فقدت المفاهيم دلالاتها ومعانيها وأدرك القوم أنّ ممارسات النخب لا تختلف عن ممارسات عامة الناس بل لعلّها أشدّ خطورة على مستقبل التونسيين.
وليس إقرار الرئيس، وهو من أهل القانون، (شهد شاهد من أهلها) بأنّ ترسانة المفاهيم والتعريفات والنصوص قد تم التلاعب بها، وتوظيفها لصالح أطراف بعينها على حساب «الشعب» إلاّ برهانا على تواطؤ النخب بمن فيهم أهل القانون وأهل المعرفة لخدمة الحاكم.تُضاف إلى ذلك التقارير التي قدمتها لجنة الدفاع عن الشهدين بشأن أدوار اضطلع بها قياديون ومسؤولون وسياسيون وقضاة من أجل إخفاء الحقيقة، وهي معلومات تزعزع الثقة في المنظومة الأمنية والمنظومة القضائية وتعيد إلى الأذهان حكايات فقهاء السلاطين، وأخبار تطويع رجال القانون ورجال الأمن في عهدي بورقيبة وبن عليّ للنصوص القانونية لصالح صاحب السلطة الفعلية.
أمّا إصرار الرئيس على أنّ مسار التصحيح يقتضي تعليق العمل بالمألوف والمتعارف عليه دوليا، وتأويل النصوص بطريقة مختلفة وتغيير المؤسسات وانتزاع السلط فإنّه لا يعدّ في نظر عموم التونسيين، أمرا مثيرا للقلق أو خطيرا فما يطرحه الرئيس(وبحوزته كل الملفات كما يزعم)يمثّل البديل والممكن والمقبول بل لعلّه الشكل الوحيد للتشفي من هذه النخب وتأديبها.
وحين يثبت في نظر أغلب التونسيين، أنّ اللجوء إلى القانون لا يساعد دائما على استرداد الحقوق والكشف عن الحقائق وفضح أساليب تعطيل مسارات المحاسبة يغدو البحث عن البدائل من خارج المنظومة القانونية مقنعا. وهكذا يلوح أنّنا أمام خطر حقيقي له تداعيات لا على المستوى السياسي فحسب بل على المستوى الاجتماعي والعيش معا وإدارة الأزمات وعلى المستوى المعرفي. فكيف يمكن استرجاع ثقة التونسيين في القانون وفي أهل المعرفة القانونية وفي نمط تدبير مختلف العلاقات؟
وأمام تشرذم التونسيين (تفرَّقهم بشكل فوضويّ) وعجزمختلف مكونات المجتمع المدني عن توحيد صفوفها وتضارب مواقف الشخصيات الوطنية وفقدان أغلب ممثلي الأحزاب للقدرة على مواجهة التغيير القسري والراديكالي باستراتيجيات جديدة يبقى «الرضا بالمقدّر والمكتوب» هو المتاح والمريح نفسيّا.