تُلقّن في مناهج التعليم وفق سرديات رسمية، وتُجسّد بتصرّف، في الأعمال الدرامية والسينمائية والمسرحية وغيرها، ويُتغنى بها في الأعياد الرسمية فترسخ في المخيال الجمعيّ.
هي ليست مجرد أرقام تحفظ، بل هي علامات ترمز إلى أحداث اتّخذت قيمة جوهرية في حياة الأفراد والجماعات وأضحت عاملا يساعد في عملية تنشئة الأجيال الصاعدة على قيم حبّ الوطن والتفاني في خدمته والبذل والعطاء ، ويساهم في تحقيق اللحمة الاجتماعية ودعم الشعور الوطني بالفخر والاعتزاز بحروب خاضها الأبطال من أجل الذود عن الوطن أو حرّر فيها الثوّار الناس من أنظمة قهرية فحقّقوا مطالب عادلة.
ومهما تعدّدت الروايات الخاصّة بالثورات والحروب وتباينت فإنّ استرجاعها أو توظيفها يوضّح مدى اضطلاعها بدور هامّ في تنمية وعي المواطن بتاريخه وبناء الهوية الوطنية، وتشكيل الذاكرة التاريخية ومن ثمّة استخلاص الدروس والعبر.
ورغم تدخل السياسي في ضبط التواريخ وصناعة الروايات وفق عملية انتقاء تهدف إلى شرعنة الحاضر، وتعبّر عن رؤية أيديولوجية أُحادية فإنّ للشعب قدرة على حفظ ذاكرته من التصرّف أو التزييف ولذا نراه يتمسّك بتواريخ محدّدة ويحتفل بها على طريقته، ويحفظها من النسيان من خلال المرويات الشعبيّة (ثورة عليّ بن غذاهم...)وغيرها.
من هذا المنطلق يمكن أن نفهمّ ارتفاع الأصوات المطالبة بإحياء ذكرى 14 جانفي والداعية إلى النزول إلى الشوارع للاحتفال والتعبير عن الاعتزاز بهذا التاريخ الرمزي أو الوقوف بوجه الإرادة السياسية التي فرضت تغيير 14 جانفي ب17 ديسمبر أو الاحتجاج ضدّ «الانقلاب»، ومن هنا تمثّل هذه المطالب موقف احتجاج على من جمّع بيده كلّ السلط، بما فيها سلطة تحديد الرواية الرسمية للأحداث التاريخية، وقرّر «دون استشارة وطنية» ضبط يوم العطلة الوطنية.
ترى شريحة من التونسيين/ات أنّ التلاعب بالتواريخ يقيم الدليل على إرادة الهيمنة على الرصيد الوطني والتصرّف في الذاكرة من خلال عرض صورة أحادية للماضي والرغبة في «قولبة» المجتمع على شاكلتها. ولئن قبلت «المجموعات الصامتة» أن يقرأ السياسي الماضي من موقع تصوّره للذات ورؤيته للتاريخ وفهمه لعلاقات القوّة، وذهبت جماعة أخرى إلى دعم السياسيّ لاعتبارات جهوية أو طبقية أو... فإنّ من التونسيين/ات من يرفض اليوم، السطو على الذاكرة الجمعيّة فيقاوم إرادة النسيان.
ولابدّ أن نذكّر في هذا الصدد، بأنّ الجدل حول تاريخ انطلاق الثورة التونسية قد انطلق قبل 25 جويلية، وهو جدل لم يشارك فيه المؤرخون والسياسيون فحسب بل كانت فيه للفاعلين في الثورة كلمة مسموعة. وقد أفضى الجدل والتفاوض إلى نوع من «التوافق» تجلّى في مستوى الكتابة في إصرار الأكاديميين والإعلاميين والباحثين على استعمال «'17 ديسمبر/14 جانفي» عن التأريخ للثورة التونسية كما أنّ هذه النزعة التوافقية الضمنية برزت في مستوى الخطاب السياسي الذي حرص أصحابه على إرضاء كلّ الأطراف.
ولكن بما أنّ مهندس 25 جويلية أراد لهذا التاريخ أن «يجبّ ما قبله» فصرنا نتحدث عن ما قبل 25 وما بعده، وقد تصّرف في الروايات وفق أهداف «تصحيحية» فإنّ من حقّ التونسيين أن يفسّروا اليوم، هذا التدخّل على أنّه علامة تسلّط. فالتاريخ يثبت أن «المنتصر» يرى أنّ من حقّه أن يفرض تحديد التاريخ «الرسمي» ويتوقّع من «الرعية» الرضى بـ«المكتوب» والمسطور في المراسيم.
ولعلّ ما يثير الاهتمام في إعادة طرح سؤال من له الحقّ في تحديد تاريخ الثورة التونسية والخروج من منطق التوافق (17-14)التوظيف السياسي للحدث التاريخي ولشارع الحبيب بورقيبة الذي يتجاوز الأهداف المعلنة: الاحتفال، التعبير، الاحتجاج السلمي إلى إعادة بناء المشهد السياسي بفاعلين أرادوا عدم تفويت الفرصة للتموقع، وهي سبل سهلة يميل إليها من لم يستطيعوا صياغة رؤية سياسية متكاملة ومقنعة فكانت مقولة «أنّ التاريخ أصبح ملجأ الطبقة السياسية «الفاشلة» منطبقة عليهم.