لقيم أرستها ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات وغيرها. ولاتعنينا في الواقع، وجاهة الحجج المعروضة في الخطابات فما يشغلنا هو رصد كيفيّة تقبّل عموم التونسيين لما حدث للبحيري.
فمع كلّ خبر -يثير جدلا في الوسط السياسي- يتذكّر التونسيون محنة التردّد على مراكز الشرطة للتبليغ عن اعتداء، ومدى تعقّد مسار التقاضي الذي يتطابق، في أذهانهم، مع مسار التعذيب، ويزداد شعور هؤلاء بالضيم والميز الاجتماعي والطبقي، ويترسّخ لديهم الوعي بأنّ طرائق التعامل مع الناس تتمّ وفق مواقعهم وقربهم من دوائر السلطة، وانتماءاتهم الأيديولوجية والجهويّة وغناهم غيرها.
وبالرغم من عمليات الفضح وبيانات التنديد وضغط المجتمع المدني ووعود السياسيين المصلحين بتغيير هذا الواقع «غير اللائق» ببلد أنجز ثورة فإنّ العلامات الدالة على التمييز بين المواطنين والمثبتة أنّهم ليسوا سواء أمام القانون وفي القانون واضحة لا مرية فيها الأمر الذي يجعل التونسي/ة على قناعة بأنّه نصف مواطن/ة لا ينعم بنفس الحقوق التي يستمتع بها أصحاب النفوذ والنقود والهيبة.
وينتبه المتابع لسير الشخصيات السياسية التي تستمع بامتيازات الطبقة والغنى والجهة وغيرها إلى أنّ هذه الامتيازات تتجاوز 'أصحاب السيادة' إلى أبنائهم وذويهم ومن هم تحت رعايتهم مما يوسّع من قاعدة المنتفعين بهذه الامتيازات، من جهة، ويضاعف أشكال تدخّل أصحاب الجاه في المؤسسات لضمان مصالحهم ومصالح أتباعهم. ولاشكّ أنّ هذه الممارسات تقيم الدليل على عجز الفاعليين السياسيين عن التخلّي عن علاقات القوّة التي ترسّخ بناء الحدود بين نحن/هم في بلد عصفت به تحولات كثيرة وبرزت فيه أصوات المهمّشين والمنسيين الداعية إلى إرساء قواعد العدالة الاجتماعية.
أن تكون قياديا بارزا معناه أن تُعامل معاملة تليق بمقامك وأنت في الحكم وحتى خارجه فتكون بذلك مواطنا كامل الحقوق أو سياسيا صاحب امتيازات عدّة، وإذا صادف أن القي عليك القبض فإنّ الضجّة الإعلامية تشكّل في حدّ ذاتها، أداة ضغط على السلطة حتى تحفظ مقامك، وهو ما أثبته وزير الداخلية حين تحدّث عن الضمانات والمعاملة الحسنة والرعاية الطبية المتميّزة.. ولا يتوّقف الأمر عند هذا الحدّ فالحزب يوفّر للقيادي كلّ الدعم ويكلّف أتباعه بكتابة الرسائل والبيانات وتنظيم الحملات المطالبة بالتدخل الأجنبي لفكّ أسره بل تهبّ الكتائب من مرقدها لتصنع سردية البطل/ضحية النظام القمعي. وأن تكون للقياديّ زوجة ناشطة وبليغة تُحكم توجيه الرأي العامّ معناه أن تكون في «قلب الحدث» يكفي أن نتذكّر الحملة التي أنجزتها زوجة نبيل القروي لتعيد بناء صورة نبيل حبيب الزواولة والمساكين. وشتّان بين من كانت زوجته تجيد اللطم والبكاء ومن كانت امرأته فاعلة تحكم التخطيط والتأثير.
ولا نحسب أنّنا بحاجة إلى إجراء المقارنة بين المعاملة الاستثنائية التي تجدها بعض القيادات السياسية وبين ما يتعرّض له بعض المنتمين إلى الأحزاب الصغرى من إهانات. فالتراتبية بين الأحزاب قائمة والتمييز بين المتهمين له قواعد.فما يلاقيه المتهم /الموقوف/ السجين من أبناء الشعب من اعتداءات وانتهاكات على يد بعض المحققين والأمنيين لا يقارن بما يعيشه المتهم «المسنود» القادر على تفعيل شبكة علاقات متى «وقع».
إنّ واقعا تسود فيه علاقات الهيمنة والتسلّط وتقوده المصالح الضيقة وتوظّف فيه شبكات مخصّصة للتلاعب بالرأي العامّ لا يمكن أن نحلم فيه بتأسيس مجتمع مساواتي وإدماجي يعامل فيه الجميع على قاعدة المساواة أمام القانون وفي القانون.
ومادمنا بعد عشرية من الزمن، لازلنا نمارس التمييز بين التونسيين على أساس الجندر والطبقة والموقع، والدين والعرق واللون والإثنية والغنى... فلا تستغرب عبارات يرددها عدد من التونسيين «صحه ليه البحيري لقى ناس وقفتلو... ينعم بأعز رعاية صحية»...