حرب الرئيس على الفساد: هل تكون مدخلا لاستبعاد كل الخصوم ؟

المنظومة والفساد والحوار الشعبي. ثلاثية تهيمن على كلمات الرئيس وتصريحاته والتي ترسم طريقا الى «بيت الحلوى» كما في قصة الاخوين هانسل وغريتل،

الفرق بينهما ان بيت الحلوى في سردية رئيس الجمهورية هي «تونس الجديدة» التي يشترط لبنائها هدم المنظومة القديمة وكل اطرافها.

والبناء الجديد وفق من يرون انفسهم اصحاب النهى . وهم انصار الرئيس ومنظرو مشروع الديمقراطية القاعدية، يحتاج الى هدم القديم المتمثل في كلمة «المنظومة» وفسح المجال للبنى الجديدة بالتشكل، وهنا يكمن جوهر الفعل السياسي للرئيس ومفتاح فهم التطورات الاخيرة في المشهد.
مشهد جعله الرئيس يقوم بشكل صريح على ثنائية «الشعب» والمنظومة. وفهم الرئيس للمنظومة نابع من قراءة ان البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة هي بنى «هيمنة» يجب ان يقع اسقاطها وانتزاع الهيمنة منها لصالح « الشعب» الذي سيعبر عن نفسه وإرادته ببنى «ثورية» تعيد تشكيل المشهد وتوزيع الثروة.
مشهد انطلق الرئيس في نقله من «الخطاب» الى الفعل السياسي منذ 25 جويلية ولكنه اعلن عنه واسس له في خطابه بولاية سيدي بوزيد في سبتمبر الفارط. حينما جعل الرئيس وبشكل علني من كل الطبقة السياسية والهياكل الوسطية والتمثيلية جزءا من منظومة قامت بتفقير الشعب وتهميشه.
هذه المنظومة التي توعدها الرئيس بالملاحقات والمحاسبة توسع تمثيلها لتشمل مكونات جديدة على الصورة السابقة القائمة حصرا على كل من حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة اي الحزام السياسي لحكومة المشيشي الذي اقيل في 25 جويلية الفارط، تاريخ هيمنة الرئيس على الفضاء السياسي ولاحقا الحكومي.
هيمنة عززها الرئيس باستبعاد لكل الاصوات التي ترتفع لتطالب بوضوح الرؤية او بالمشاركة في صياغة تصورات جديدة لمرحلة ما بعد 25 جويلية، فالرئيس وطوال الفترة الممتدة لاكثر من ثلاثة اشهر انشغل بشكل مكثف على بناء سردية تعزز «الفرز» الذي تحدث عنه هو في سيدي بوزيد ولاحقا ذكر في كلماته المختلفة.
«الفرز» هنا ليس الا عملية استبعاد لمن يطالب الرئيس بالتزامات سياسية او بخارطة طريق تحدد الخطوات القادمة وتقوم على «توافق» قوامه مشاركة الفاعلين السياسيين والأحزاب والمنظمات من رسم خيارات المستقبل. اي ان الرئيس يعتمد مفهوم الفرز للتميز بين من ينتصرون لتصوره السياسي ومعركته مع «المنظومة» وبين من يطالبون بديمقراطية تكون فيها الاحزاب والهياكل التمثلية فاعلا هاما. اي ان الرئيس حدد معيار الفرز بين من هو مع تغيير المنظومة اي معه. ومن هو مع تغيير نظام الحق وبعض قواعده اي مع الابقاء على منظومة الهيمنة.

واستكمال عملية الفرز قاد الى الى المرحلة الموالية وهي تحديد الخصوم ورسم ملامحهم بالتلميح. فالرئيس وان انطلق في مسار 25 جويلية وقد اعلن عن خصومته مع الحزام البرلماني لحكومة المشيشي، اي النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة. فانه ومنذ خطابه في سيدي بوزيد جعل قائمة الخصوم اشمل واعم وهو هنا يقدمهم على انهم «المنظومة».
اي ان الرئيس جعل من كل من يطالب بحوار سياسي جزءا من منظومة هو يريد تغييرها، والمنظومة هنا هي باختصار لدى الرئيس كل بنى الهيمنة وكل من استفاد منها باي شكل كان. لذلك فالقائمة وبالتلميح باتت تشمل احزابا دعمت الرئيس في خطوة 25 جويلية ومنظمات وطنية اجتماعية اضافة الى جمعيات وشخصيات اعتبارية.
عند هذا الحد يتضح بتتبع «فتات الخبز» الذي ينتثره الرئيس انه في صراع مفتوح وكلي مع «المنظومة» التي يريد ان يغيرها كليا ويهدم بنيانها لبناء جديد يمكن الشباب والشعب برمته من السلطة والسيادة والثروة. مقاربة انتقلت من «فضاء الكلمة» الى الفعل السياسي وهذا يتجلى بشكل كبير في لقاء الرئيس يوم الاثنين الفارط مع وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية محمد الرقيق الذي جمع فيه الرئيس الحديث عن الفساد ونهب المال العام مع اعلانه عن من يتجه ليحاوره ومن يرفض حواره.

وهنا يؤكد الرئيس ما هو معلوم، رفض الحوار مع الفاسدين الذين يقدمهم على انهم في كل مفاصل المنظومة التي يريد هدمها لانها نكلت بالتونسيين وقوتهم وثروتهم. وهنا يصبح الفساد بمثابة معيار استبعاد من الحوار الذي يعتبره الرئيس اداة هدم للتقدم وبناء الجديد. فرئيس الجمهورية لا يرى لحواره شكلا غير كونه «معولا» لهدم منظومة الهمينة وإخضاع ما تبقى من ادواتها للفاعلين الجدد. الذين يحدد ملامحهم الرئيس بالغلابة والمهشمين.

لكن حوار الرئيس يجابه عقبة رفض المنظمات الوسيطة الانصياع له ولتصوره وتريد ان تضغط عليه لتمكينها من الية التدخل والتعدي القبلية والبعدية ان تعلق الامر بالحوار، لادارك الطرفين الرئيس وباقي الفاعلين ان الحوار ايا كان الشكل الذي يدفع اليها كل منهما تحدد مخرجاته بهوية من يشارك فيه. ولمنع الرئيس من فرض امر الواقع وجعل تصوره السياسي القائم على هدم المنظومة هو «مطلب» الحوار الشعبي، تبحث كل الهياكل التمثيلية، احزاب ومنظمات على دفع الرئيس الى حوار معها يشارك فيه الشباب وليس حوارا بين الرئيس والشباب والشعب.

وهذا ما يشرح ويوضح محورية الحرب على الفساد لدى الرئيس لتحقيق مشروعه السياسي الذي يقول انه لا يقصى الاحزاب او المنظمات الوسطية والتمثيلية بل يحد من دورها ليدفعها للموت السريري الناجم عن انتفاء ووظيفتها وهذا لب جوابه في حوار نشرته الشارع المغاربي في 2019 حينما حاورت الزميلة كوثر زنطور جاء فيه قول الرئيس «لا لن الغيها.. التعددية ستبقى قائمة الى أن تندثر وحدها».
اي ان الرئيس ينطلق من ان منظومة الهيمنة قامت على الاحزاب والمنظمات وكل مراكز النفوذ. وينطلق من ان هذه المنظومة طالها الفساد من كل صوب وحدب. وان هدمها وهي غايته يقوم بالاساس على محاربتها امام الشعب الذي يسوق له الرئيس ان المنظومة هي الفساد.
هنا تصبح تحركات النيابة العمومية واثارتها للملفات وتتبعها للشخصيات السياسية اضافة الى تلميحات الرئيس خيطا ناظما يكشف ان الحرب على الفساد التي يطلقها الرئيس لها عدة وظائف واهداف من بينها استبعاد من يشتبه فيهم الرئيس بانهم جزء من المنظومة من الحوار القادم.
والحوار القادم هنا ليس مجرد حدث سياسي او تجميعا للمقترحات بل هو محوري في تصور الرئيس للانتقال الى الجديد باعتباره يمنح الشعب صلاحية رسم ملامح النظام القادم وكل اركان منظومته التي ستحل محل المنظومة القديمة. اي ان الحوار له مهمة اساسية وهي كسر المنظومة والاعلان عن انطلاق «البناء الجديد» لذلك من الضروري منع «القديم» الذي يمثل المنظومة من وجهة نظر الرئيس من المساهمة في رسم «تونس الجديدة».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115