ومنشغل بمآلات هذا الوضع الجديد، وهل أن تونس ستبقى في سياق الانتقال الديمقراطي أم أنها ستحيد عنه..؟
أمام هذا الضغط المتزايد،خاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ودوله بقيت ديبوماسيتنا في رد الفعل وهي تتأرجح الآن بين فكرتين أساسيتين : التأكيد على السيادة الوطنية ورفض كل تدخل في شؤوننا الداخلية والتعهد بأن التدابير الاستثنائية إن هي إلا أفضل الطرق وأضمنها لاستئناف الانتقال الديمقراطي على أسس سليمة، وفي الأثناء أصبحنا لا ندرك تماما ماهي العناصر الأساسية للسياسة الخارجية التونسية؟وماهي الصورة التي نريد إعطاءها عن أنفسنا .
نتحدث كثيرا في تونس خلال هذه السنوات الأخيرة عن ثوابت الديبلوماسية التونسية التي وضع أسسها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة والتي تقوم على المبادئ التالية:
• صفر أعداء في الشرق وفي الغرب
• الحلقات المترابطة والمتضامنة للتموقع التونسي :المغاربي والإفريقي والعربي والإسلامي والمتوسطي
• انخراط واضح في المعسكر الغربي (منذ الحركة الوطنية ) دون معاداة المعسكر الشرقي
• تونس قوة اعتدال وقوة اقتراح في المنطقة حتى وإن كان ذلك صادما أحيانا لبعض الأشقاء كاقتراح الزعيم بورقيبة القبول بقرار تقسيم فلسطين كأرضية لاسترداد الحق التاريخي للشعب الفلسطيني.
• تونس دولة عصرية عمّمت التعليم وحررت المرأة وهي تحارب الجهل والخرافة وتعمل على اللحاق بركب التقدم
• تونس أمة ذات حضارة ضاربة في الزمن شهدت تلاقح الثقافات والحضارات بدءا بالحضارة اللوبية وصولا إلى الدولة الوطنية مرورا بالفينيقيين والرومان والفتح الإسلامي.
كل هذه الأبعاد – وغيرها – شكلت القواعد الرئيسية للتموقع الجغراسياسي لتونس ومن ثمة لسياستها الخارجية في نظرة سيادية منفتحة وكنا دوما نقول أن هذه الثوابت تحتاج إلى تحيين وفق المعطى الجوهري الجديد: ثورة الحرية والكرامة،وان هذه القيم لابد أن تلون ديبلوماسيتنا وتعمق فرادتنا في المنطقة كما انه لابد من حسن استغلالها لتنويع فرص الشراكة والتسويق لسلعنا وخدماتنا والدفاع عن صورتنا ومصالح مواطنينا في الداخل وفي الخارج ..
والسؤال اليوم هل مازالت السياسة الخارجية التونسية قائمة على نفس المبادئ؟ وهل هي وفية لنفس التحالفات دون السقوط في سياسة المحاور الإقليمية المضرة بمصالحنا الإستراتيجية ؟
لا نجد جوابا واضحا حول هذا السؤال المركزي ونسمع أحيانا من بعض الدوائر المقربة للحكم (أوالتي تقدم نفسها أنها كذلك ) الحديث عن تحول جذري لعلاقاتنا الخارجية الديبلوماسية والاقتصادية في آن واحد ، أي الالتفات الاستراتيجي نحو الشرق (الصين) وطريق الحرير والانخراط منذ الآن ضمن التصور الصيني لعالم الغد ..
لا وجود لمقدسات في السياسة،وفي السياسة الخارجية على وجه الخصوص..الأساسي في كل هذا هو المصالح الآنية والاستراتيجية لتونس وللتونسيين وتقييم عقلاني للأرباح وللمخاطر في كل اختيار والسعي دوما إلى تحسين شروط التفاوض والتعامل مع كل الدول والمجموعات الإقليمية، ولكن الخطر هنا هو أن ننخرط في تحالفات دولية أو في محاور إقليمية أخذا بعين الاعتبار فقط للمصلحة السياسية لأهل الحكم اليوم والخروج مما يسمى بنادي الدول الديمقراطية (أيا كانت انتقاداتنا وتحفظاتنا على هذا «النادي» وأهم مكوناته) الى ناد جديد تهمين عليه النظم التسلطية ..
السياسة الخارجية ليست فقط إستراتيجية تسويقية لدولة ما بل أنها ترتبط وثيق الارتباط بالسياسة الداخلية للدولة وهي استمرار لها تنطلق من حسن قراءة موازين القوى الدولية المحيطة بنا وتوظيفها – ما أمكن – لتقدم البلاد ورقيها ..
لا ينبغي ان ننسى انه لا وجود لتجربة شعبوية ناجحة على المديين المتوسط والبعيد فلا يدوم سوى البناء المقام على العقل والمصلحة والعمل .