رفعتها النسويات في تونس لاسيما بعد استمرار الحكومات المتعاقبة في تجاهل المشاركة النسائية التي لا تتوقّف عند تعيين الوزيرات بل تتجاوز ذلك إلى تعيين السفيرات والمسؤولات عن إدارة الهيئات الكبرى والمؤسسات وغيرها. ولا أحد يمكن أن يدّعي أنّه قد توقّع تعيين امرأة على رأس الحكومة في الوقت الحالي، إذ تموقع الرئيس «سعيّد» منذ البدء، باعتباره الرجل المحافظ والملتزم بالقراءات التقليدية للنصوص وغير المناصر للحركات النسويّة والمؤثر في المقابل، إنصاف النساء «الكادحات».
فمن حيث قياس أثر القرار نجح «سعيّد» مرّة أخرى، في إثبات أنّه ينفلت من منظومة التوقّعات، وقادر على الانخراط في لعبة السياسية لكسب رضا الجماهير، ومتمرّس بالمناورات وتوجيه «ضربات المعلّم» إلى خصومه أو أعدائه، وهو في ذات الوقت، مهتمّ بصورته في المشهد السياسي العالمي. أمّا من حيث دلالات هذا القرار وانعكاساته على رئيسة الحكومة فللأمر أكثر من دلالة.
بالطبع يحقّ للتونسيات والتونسيين الراغبين في التغيير ومضاعفة المكتسبات التي تعزّز حقوق الإنسان أن يعبّروا عن فرحهم وسعادتهم بهذا القرار الطلائعي ويحقّ للبعض منهم أن يعترفوا بأنّهم/نّ أساءوا التقدير حين رفضوا «سعيّد»، ويحقّ لهم أيضا أن يفسّروا هذا القرار في إطار القطيعة مع ما قبل 25 جويلية وتلك السنوات التي رأوا فيها ممارسات وسلوكيات تومئ إلى معاداة النساء والتعصب ضدّهنّ وغيرها. ولكن لا يمكن أن نتعامل مع القرارات عاطفيا فنرحبّ بها متى غيّرت مزاجنا و«رفعت معنوياتنا» وأعطتنا جرعة أمل إذ لا يمكن أن نغفل أنّ «سعيّد» كان قبل أسبوع، تحت المجهر وبدأت الائتلافات تُعقد والغضب الشعبي يتضاعف. فليس تعيين امرأة على رأس الحكومة في تقديرنا، إلاّ «تكتيكا» سياسيّا لتحويل وجهة من اعتبروا أنّ الوقت حان للخروج من وضع المشاهدة والانتظار إلى الفعل السياسي ولمّ شمل أطياف من المعارضين والمعارضات. وإذا نزّلنا القرار في إطار الصراع بين الرجال، فليس تعيين امرأة إلاّ شكلا من أشكال سحب البساط من تحت أقدام «المفسدين» وهو خصاء رمزيّ للآخر بإزاحته من عالم السياسية التي يظنّ أنّه الأولى بها والأحقّ...
ولا نتوقّع أنّ تفكير «سعيّد» في ترشيح «نجلاء بودن» كان متنزّلا في إطار الإيمان بضرورة دعم سياسات التمكين النسائي، والاقتناع بالقرارات الأممية الدولية وأهمّها قرار 13/25 الداعي إلى تعزيز مكانة النساء في مواقع صنع القرار، وإحلال السلام، وقد استفادت منه عدّة نساء إذ ارتفع عدد النساء المتوليات لرئاسة الدول، ورئاسة الحكومات في السنوات الأخيرة بما في ذلك في بلدان إفريقية وإسلامية.
وفق هذه القراءة التي تتجاوز الظاهر تكون «رئيسة الحكومة» موضوعا لتنفيذ سياسة الآخر وليست ذاتا صاحبة قرار فعليّ. ولعلّنا لا نبالغ إذا اعتبرنا أنّها منخرطة -ربّما عن غير قصد-، في تكريس الصور النمطية للمرأة كالطاعة وإيثار الآخرين، والامتثالية والالتزام بالقيم.. في مقابل رؤساء حكومات'خانوا' العهود، وارتبطوا بـ«الفساد» وخدموا مصالحهم...ولو دققنا النظر في سياق التعيين لانتبهنا إلى أنّ رئيسة الحكومة قبلت هذا المنصب في سياق أجمع فيه رؤساء الدول على أنّ وضع الدولة التونسية لا يمتّ بصلة إلى الشرعية، ومعنى هذا أنّها رضيت بأن تكون في هذا المسار غير العادي وغير المقبول والمحرج.. و هي المسؤولة عن مواجهة التحديات والأزمات. فهل ستكون قادرة على الخروج من هذا الوضع «المحرج» بفرض رؤية خاصة وإرادة حقيقية لقيادة المرحلة ترتكز لى سياسة إعلامية جديدة، وطريقة في العمل وممارسة السياسة من منظور الفرادة لا الاتباعية؟ وهل بإمكانها ، وهي التي قبلت المنصب، أن تخرج من «الحماية»' التي يوفّرها الرئيس وأن تشقّ طريقها بكلّ جرأة؟ وهل ستكون قادرة على صناعة الأنموذج والخروج بالبلاد من مسار متعثّر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا؟
ولأنّ التاريخ علّمنا أنّ الدول القومية وظّفت النساء وتلاعبت بمصائرهنّ وجعلتهنّ أدوات في صراعات كثيرة وأجبرتهنّ على الانصياع والمقايضة فإنّنا نريد من رئيسة الحكومة أن تفيد من الدروس والعبر، وأن تكون فاعلة لا مفعولا بها، قائدة لا تابعة حينها يجوز لنا الحديث عن «الاستثناء التونسي».