في عمق مشروع قيس سعيد «البناء الديمقراطي القاعدي» ووهم إرجاع السلطة إلى الشعب: عندما نلغي السياسة نؤسس للفاشية

من يوم إلى آخر تتضح الصورة تدريجيا: التدابير الاستثنائية المعلنة يوم 25 جويلية وما تلاها من تنظيم مؤقت للسلط العمومية يوم 23 سبتمبر إنما هما لحظتان

أساسيتان نحو تنفيذ «مشروع» يراد منه انتزاع السلطة من النخب وإعادتها إلى الشعب،صاحب السلطة والسيادة،وأن هذا «البناء» الجديد هو وحده الذي يضمن شروط تحقق «الديمقراطية الحقيقية».
كيف يتجلى هذا '«البناء الديمقراطي القاعدي»؟
نحن إزاء هيكلة مختلفة بصفة جذرية للسلطة التشريعية وفق هذه المحطات الأساسية :

• اقتراع على الأفراد في مستوى دوائر انتخابية ضيقة (العمادة)

• الفائزون بهذه الانتخابات يشكلون مجلسا محليا (المعتمدية)

• التصعيد عبر القرعة لأحد أعضاء المجلس المحلي لتشكيل المجلس الجهوي (الولاية)

التصعيد عبر القرعة أيضا لأحد أعضاء المجلس المحلي للمجلس التشريعي الوطني (البرلمان)

هذا من حيث الشكليات الانتخابية ،تضاف إلى ذلك مسألة على غاية من الأهمية وهي أن الترشح لمستوى العمادة،هو للأفراد فحسب ودون يافطة حزبية،كما أن الدعاية الحزبية ممنوعة أثناء الحملة الانتخابية .
أما عن اختيار القرعة على المستويين الجهوي والوطني فتبرر ذلك حلقات التفكير التي هي بصدد البلورة النهائية لمشروع الرئيس بعدم إتاحة الفرصة إلى المال السياسي للمراهنة على مرشح ما ،كما أن القرعة تمنع الصراع والتنافس بين الفائزين في الانتخابات على مستوى العمادات وتنزع فتيل بغضاء الأحزاب وتعوضها بالتآزر والمحبة بين المواطنين (تقريبا هكذا !) ومنع الحملات الدعائية للأحزاب ضمانة للمساواة بين كل المترشحين .
أما مضمون هذه الهيكلة الانتخابية فيقوم على تصعيد البرامج والتأليف بينها بهذه الطريقة:

• كل مرشح للعمادة ينبغي أن يقدم مشروعا لعمادته وهكذا يكون الفوز للمشروع لا فقط للشخص.

• المشاريع الفائزة على مستوى محلي (المعتمدية) يتم التأليف بينها بالأخذ بعين الاعتبار لملاحظات المجتمع المدني (ومن بينها الأحزاب) والمعطيات المالية والإدارية التي تقدمها الإدارات المحلية ثم يتم التأليف ثانية بين مختلف هذه البرامج المحلية على المستوى الجهوي (الولاية ) وفق نفس الآليات وبعد ذلك يتم التأليف على المستوى الوطني (المجلس التشريعي)

وتتولى السلطة التنفيذية بعد ذلك تطبيق هذا البرنامج الوطني الذي أقره المجلس التشريعي .
قد يبدو لنا أننا أمام نظام سياسي أكثر تمثيلية للناس وللجهات ولكن سنرى أن الحقيقة على غير هذا التصور الوردي.
أول الإشكالات التي تعترض هذا التصور «الجديد» والذي لا نجد له مثيلا في أي بلد في العالم هو الإلغاء العملي لدور الأحزاب إذ ستمنع من استغلال الموعد الانتخابي للدعاية لبرامجها ولقياداتها، والحجة المقدمة هي أن هذا البناء القاعدي يدعو الأحزاب للاشتغال كامل السنة في تقديم الأفكار والمقترحات بدلا من السعي لـ«شراء» الأصوات والذمم وتقديم الوعود الكاذبة للفوز يوم الانتخاب ..

في المحصلة التعدد الفكري والسياسي لن يجد الأطر التقليدية للوجود فنحن سنعوض الخلاف حول تأميم أو خوصصة قطاعات ومنشآت بنقاش حول بناء مدرسة أو مستوصف أو دار شباب ،أي الانتقال من الفكري والصراع حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية الكبرى إلى التداول حول أولويات اليومي في عمادة أو معتمدية أو جهة ما ، أي أن مشروع «البناء القاعدي'» يريد إلغاء «السياسي» أي إلغاء دور النخب في التفكير والانخراط في مشاريع تتجاوز اليومي والحيني لتصور مآلات البلاد ..
في «البناء القاعدي» لا نجد الا الاهتمامات المباشرة للناس في مواطن عيشهم،وهذا مهم،ولكن السياسات الكبرى الضرورية للبلاد كإصلاح التعليم والمنظومة الصحية والتكوين ومختلف المنظومات الاجتماعية من دعم وحيطة اجتماعية وغيرها والفلسفة الجبائية العامة وإستراتيجية اقتحام أسواق جديدة لسلعنا وخدماتنا،كل هذه القضايا ستكون خارجة عن سياقات «البناء القاعدي».

نحن نعتقد بأننا بإلغاء الأحزاب والنخب نعيد السلطة للشعب ولكننا في الحقيقة سنضع السلطة كل السلطة لدى الجهاز التنفيذي المحلي والجهوي والمركزي فهو وحده الذي يملك المعطيات العامة ويقدر حجم الممكن وما هي أولويات سير الدولة وهو الذي سيُحَكّم بين مختلف المشاريع المحلية والجهوية بتحديده لمجالات ولحجم الإنفاق العمومي ..
الغريب هنا أن البناء القاعدي المفرط في اللامركزية بالنسبة للسلطة التشريعية يتحول إلى مركزة مفرطة للسلطة التنفيذية وإلى صلاحيات واسعة جدا لهرمها الأعلى وهو رئيس الجمهورية ،والسؤال هنا لو كان البناء القاعدي ضروريا للسلطة التشريعية لِمَ لا يكون الأمر كذلك للسلطة التنفيذية ؟!

ثم ماهي فاعلية كل هذا البناء من الناحية التنموية؟ وكيف يسمح البناء القاعدي لمعتمدية فقيرة للغاية بمعالجة جوهرية لتراجع كل الخدمات العمومية فيها ولخلق بيئة ملائمة للاستثمار وللتألق ؟ الواضح أن الحل هنا ، كما في جلّ القضايا؟ لا يمكن أن يكون إلا وطنيا وفي ظل سياسات عمومية جدية ونشيطة ومستمرة عبر سنوات بل عقود، أما تحديد الأولويات التنموية لمعتمدية فقيرة وفق إمكانياتها فقط أو حتى وفق إمكانية الولاية التي تحتضنها فهذا لن يقدم شيئا يذكر لأهاليها ولن يسهم في ردم الهوة بينها وبين المعتمديات المحظوظة .

في الظاهر يريد «البناء القاعدي» افتكاك السلطة من النخب وإعادتها إلى الشعب ولكنه في الحقيقة سيعطي السلطة كل السلطة للدولة وسيفقد المجتمع عبر أجسامه الوسيطة كل قدرة على الرقابة.

نقول في المحصلة أن مشروع «البناء الديمقراطي القاعدي» من حقه أن يُعرف وأن يُناقش وأن يُختلف حوله ومن حق أصحابه عرضه على المواطنين والسعي لإقناعهم به،ولكن محاولة فرضه بتعلة الإجراءات الاستثنائية وفي غفلة عن الناس ودون أي تفويض شعبي سابق إنما هو ممارسة لا ديمقراطية ولا أخلاقية كذلك،وأصحابه، في الأخير – لو نهجوا هذا النهج – لن يكونوا أفضل من خصومهم النهضويين الذين اعتبروا أن فوزهم النسبي في 2011 أعطاهم توكيلا شعبيا لـ «أسلمة» المجتمع والدولة ..

من المفارقات المضحكات المبكيات أن يُراد للبناء الديمقراطي القاعدي أن يُفرض من سلطة تنفيذية جمعت كل السلط في أياديها..في كل قواميس الدنيا هذا تسلط فاشستي لا علاقة بكل أصناف وضروب الديمقراطية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115